Site icon IMLebanon

التكليف يضع لبنان أمام مسارين

 

لا يُعقل أن يستعيد «حزب الله» إمساكه بالمؤسسات الدستورية بعد انتخابات نيابية لم تكن لمصلحته، وخسارته للأكثرية الواضحة التي كانت بحوزته، وعدم قدرته على إخراج البلد من الانهيار الذي أوصَله إليه وتراجع وضعيّته الإقليمية.

تعرّضَ مشروع «حزب الله» بشقّيه اللبناني والإقليمي إلى تراجعات وانتكاسات عدة، أبرزها تجميد الاتفاق النووي واختراق إسرائيلي واسع للأمن الإيراني ونشوء تحالف إقليمي كبير للمرة الأولى منذ عقود في مواجهة التمدُّد الإيراني والفشل الذريع لهذا المشروع في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، وخسارته للانتخابات النيابية في العراق ولبنان، وفقدانه للأكثرية في بيروت، وتراجعه في كل البيئات اللبنانية والاختراق الجغرافي لبيئته في حاصبيا ومرجعيون، وعدم قدرته على حكم لبنان منفرداً بعدما اكتشف ولمسَ عجزه عن إخراج البلد من انهياره الذي وصل إليه بسبب إمساك الحزب وفريقه بدفّة الحكم.

 

وأيّ توصيف موضوعي لمشروع «حزب الله» يفيد انه دخل منذ فترة في مرحلة تراجعية بعدما كان مشروعه قد شهد تقدماً في لبنان وكل المنطقة. وإذا كان من الطبيعي ان يحاول الإمساك بمفاصل السلطة اللبنانية في مرحلة صعوده، فمن غير الطبيعي ان يواصل هذا الإمساك في مرحلة تَراجعه وخسائره المتتالية المحلية والخارجية. وعَدا عن تراجع وهج سلاحه ومشروعه الإقليمي، فإنّ دوره في السلطة أصبح عنواناً للانهيار والفشل.

 

ومن غير المنطقي أن يربح «حزب الله» بأصوات النواب ما خسره من خلال تصويت الناس، مُتّكئاً على قدرته في توحيد صفوف فريقه مقابل عدم قدرة القوى الأخرى على الاتحاد، ومن غير المنطقي أيضاً أن يحافظ الحزب على دوره السلطوي في لبنان وكأنّ مشروعه الإقليمي والمحلي ما زال يحافظ على صعوده، فيما يشهد هذا المشروع انحساراً ما بعده انحسار في كل ساحات نفوذه وتَمدُّده.

 

وعلاوة على ذلك فقد أصبح في حكم المؤكّد انه بقدر ما يُمسك «حزب الله» بمفاصل السلطة، بقدر ما يتواصَل الانهيار الذي بدأ عملياً منذ استلامه الحكم للمرة الأولى في العام 2011. وبقدر ما يبتعد الحزب عن السلطة، بقدر ما يتحسّن الوضع المالي، ما يعني انّ وضع يده على رئاستي الحكومة والجمهورية يُبقي البلد في وضعيته الانهيارية، ولكن من الضروري على هذا المستوى التمييز بين أمرين: الأمر الأول ألّا يكون رئيس الحكومة هو رئيس حكومة «حزب الله»، وألّا يكون رئيس الجمهورية هو رئيس جمهورية الحزب. والأمر الثاني لا أحد يتحدّث عن رأسَين للسلطة التنفيذية سيعلنان الحرب ضدّ الحزب، والفارق كبير جداً بين الأمرين، إنما المطلوب واحد: مؤسسات دستورية تُحكم باسم الدستور ومن داخلها، وليس باسم قوى الأمر الواقع ومن خارجها.

 

فالجميع يَتعامل مع السلاح على قاعدة انّ نَزعه بالقوة غير ممكن، ولكن غياب هذه الإمكانية لا يعني تسليم السلطة للحزب، إنما السهر على إبقاء تأثير سلاحه خارج السلطة، فما هو غير شرعي يجب ان يبقى خارج المؤسسات الشرعية، أي الفصل بين ما هو غير شرعي ويُمثِّل حالة أمر واقع خارجة عن منطوق المؤسسات، وبين ما هو شرعي ولا يخضع لسياسة الأمر الواقع.

 

ولم ينزلق لبنان إلى هذا الدرك سوى بعد سيطرة «حزب الله» على رئاستي الحكومة والجمهورية ومجلس الوزراء، وهناك فرصة حقيقية اليوم لفرملة الانهيار ليس من باب إحياء الانقسام القديم المتمثّل بـ8 و 14 آذار، إنما من باب تكليف رئيس للحكومة ليس حليفاً لـ»حزب الله» وخاضعاً لنفوذه وأجندته، ولا عدواً له يعدّ العدّة على نزع سلاحه بالقوة (وهذا الأمر غير مطروح أساساً كونه يقود إلى حرب أهلية)، إنما جلّ ما هو مطلوب منه تطبيق الدستور في تأليف الحكومات وتحقيق الإصلاحات وتحديد سياسة لبنان الخارجية ومنع أي تَعدٍ على السيادة وإلى ما هنالك من أدوار مَنوطة بالحكومة، وما ينطبق على رئاسة الحكومة ينسحب على رئاسة الجمهورية.

 

فأحد أسباب انهيار لبنان الاستهتار في إدارة الدولة من خلال التماهي التام مع مشروع «حزب الله»، وهذا الاستهتار بالذات ما يجب وضع حَد نهائي له، فإذا كان نزع سلاح الحزب مُتعذراً، فلا يعني انه على اللبنانيين تَحمُّل تَبِعات هذا السلاح بمزيد من الفقر والجوع والعوز والعزلة وعدم الاستقرار، إنما ضرورة الحدّ من تأثيره على سياسة الدولة من خلال شخصيات موثوقة ولا أولوية لديها خارج أولوية تطبيق الدستور.

 

وكل نائب في البرلمان يُدرك تماماً انّ نجاح «حزب الله» بانتزاع التكليف وانتخاب الرئيس مجدداً يعني تمديداً للأزمة بكل مستوياتها الوطنية والمالية والسياسية، لأنّ التكليف والانتخاب يعني استمراراً للمشروع نفسه، وهذا المشروع لا يمكن إيقافه سوى من خلال تكليف رئيس للحكومة في الاستشارات المقبلة لم تتمّ تسميته من قبل الحزب ويضع المعايير المطلوبة من الآن فصاعداً في تأليف الحكومات.

 

وليس مهماً رفض رئيس الجمهورية التوقيع على التشكيلات الحكومية التي يرفعها الرئيس المكلف، لأنه ما نفع تأليف حكومات غير قادرة على معالجة الأوضاع المالية، لا بل عدم وجود حكومة أفضل بكثير من وجود حكومة تلعب دور شاهد الزور على انهيار معروفة أسبابه وخلفياته، فيما المدماك الأول للخروج من هذا الواقع يبدأ مع استشارات التكليف الخميس المقبل في حال طبعاً تمّ تكليف الرئيس الذي لم يَختره الحزب.

 

وعدا عن انّ التكليف يعيد الأمل للكتلة السيادية والتغييرية الناخبة بأنّ اقتراعها بدأ يترجم داخل المؤسسات، فإنه يفتح الباب على انتخاب رئيس للجمهورية من طينة الرئيس المكلّف نفسها والذي يريد تطبيق الدستور، ويدفع الفريق الآخر إلى تعطيل النصاب تَجنّباً لانتخابات رئاسية تعيد إنتاج السلطة بمعايير دستورية لا سياسية فئوية، ما يضع هذا الفريق مجدداً في مواجهة مفتوحة مع الناس.

 

وفي حال نجح الفريق الحاكم بانتزاع التكليف فيعني ترجيح انتزاع انتخاب الرئيس، ولا يفيد بشيء تحميل النواب المتخاذلين المسؤولية التاريخية بإبقاء البلد في حالة الانهيار، لأنّ لبنان سيكون لولاية «جهنمية» جديدة تحت سيطرة الفريق الحاكم، وليس مطلوباً إطلاقاً ان تنصهر القوى المعارضة السيادية والتغييرية ضمن مشروع جَبهوي، لا بل على العكس بإمكان كل مكوِّن ان يحافظ على هويته وأفكاره وشخصيته وتَمايزاته، إنما كل ما هو مطلوب الالتقاء لمصلحة البلد والناس في الاستحقاقات المفصلية التي ترتقي إلى مَصاف الأمن القومي، وفي طليعة هذه الاستحقاقات هذه المرة تكليف رئيس حكومة وانتخاب رئيس للجمهورية.

 

ويُخطئ من يقارن الوضع الحالي بأوضاع سابقة بعد العام 2005، ليس فقط لأنّ لكل وضع أحكامه، بل لأنّ مشروع «حزب الله» اللبناني والإقليمي في أزمة ما بعدها أزمة، ولا يجوز التصرُّف معه وكأنه المنتصر الذي يعمل على تَرجمة انتصاره، وهذا لا يعني تكراراً بأنّ المطلوب في أي لحظة نزع سلاحه بالقوة، إنما المطلوب في كل لحظة إخراج تعطيل مفعول هذا السلاح تأثيره على السلطة ودورها في السيادة والإصلاح وعلاقات لبنان الخارجية.

 

ومن هنا، فإنّ استحقاق التكليف يوم الخميس المقبل يرتقي إلى مصاف الأمن القومي، ويضع لبنان أمام مسارين: مسار فصل المؤسسات الدستورية عن «حزب الله» الذي يؤدي إلى استعادتها لعافيتها ودورها، ومسار استمرار ربط هذه المؤسسات بالحزب الذي يؤدي إلى المراوحة في الانهيار.