عجيب أمر «حزب الله». مصرّ على اتهام أخصامه السياسيين الداخليين والإقليميين بالحؤول دون انتخاب رئيس جديد للبنان منذ سنتين ونصف، من دون أن يمكنه أن يكون غافلاً عن كون أخصامه الداخليين قد انتهوا الى سحب أي مرشح لهم، بل أنهم رشحوا حليفين للحزب، من دون أن يتوجه أحد لحضور جلسات الانتخاب غير هؤلاء الأخصام الداخليين، في حين هذا الشيخ نعيم قاسم بالأمس، يشترط الإجماع المسبق من جانب أخصامه الداخليين على حليف له دون حليف آخر، دون أن تبدر منه ولو كلمة بسيطة، ولو غمزاً، لطلب توحيد ترشيح حلف الثامن من آذار الذي يقوده.
لكن، اذا ما حيّدنا العجب جانباً، فكلام قاسم عينة على أن الحزب لا يتعامل مع نهاية الفراغ الدستوري على أنها وشيكة، ولا يبدو في عجلة في أمره، ولا مضطراً للاسهام في وضع حد للفراغ. ما يهمّه أكثر هو ارساء دستور مواز للبلد من خلال وقائع الأمر الواقع. مثلاً، دستور يقول بعدم حضور الجلسات لانتخاب رئيس لعامين ونصف، وثلاثة وأربعة، الى ان تختمر الفكرة بالرأس. مثلاً، دستور يقول بأنّه يمكن لفريق أن يقسّم المسائل بين قضايا سيادية يصادرها، كالحرب والسلم والسياسة الخارجية والحدود الوطنية، من دون أن يجد نفسه محمولاً على التداول بشأنها مع الآخرين بشكل جدي، وبين قضايا لا بد أن تكون موضع اجماع كامل، والا كانت غير ميثاقية، هذا قبل ان يتلقف الحليف الموعود بالرئاسة من الحزب بدعة الميثاقية ويسير بها نحو آفاق اضافية من الفانتازيا.
الوضع الداخلي يعكس الى حد كبير اوضاعا اقليمية لا توحي بقابلية تسطير اي تسوية او تهدئة جدية في الوقت الحالي، وتوحي في نفس الوقت بدرجة من الارهاق الحربي على مختلف الجبهات، مع توجس من فترة الاستحقاق الرئاسي، والحالة الانتقالية التي تجتازها الادارة الاميركية والعالم ككل بين عهدين.
طبعاً، الفراغ الرئاسي على جسامته، ليس المشكلة الوحيدة لبنانياً الآن، طالما ان العد التنازلي لنهاية الفترة الممددة الثانية للمجلس النيابي بدأ، دون ان يكون هناك مسار واضح يمكنه ان يفضي للاتفاق على قانون انتخابي، وعلى الاستحقاق النيابي، وعلى ما يمكن فعله اذا لم يتم الاتفاق على القانون، او على الاستحقاق. وهناك في الموازاة على الصعيد المجتمعي، مشكلة ادارة ملف اللجوء السوري، وخطورة الاستثمار في هذه المشكلة بشكل انفعالي، بالتقاطع مع استفحال الفراغ الرئاسي، وتزايد تعطيل المؤسسات بشكل عام، والوصول الى ربع الساعة الاخير ما قبل الانتخابات من دون قانون انتخابي او افق عملي للاستحقاق. اكثر فاكثر تعني مسألة اللجوء قضية أمن اجتماعي وأمن قومي في وقت واحد، والتنبه من أي توظيف انفعالي لها مسألة أساسية.
أمام هذه التحديات الثلاثة، وأشباح الاستعصاء حيال كل منها، الفراغ الرئاسي، الانتخابات النيابية القادمة وقانونها وترتيبها، ملف اللاجئين، يربح أكثر من لديه قدرة على ترشيد عامل الوقت لصالحه اكثر. «حزب الله» يفعل ذلك على قاعدة اظهار وقائع لا دستورية متصاعدة، واعتبارها دستوراً موازياً أو بديلاً. في المقابل، القوى المواجهة له في أزمة جدية تتعلق بتقبل فكرة ان عليها أن توجد نموذجها من «الصبر» هي الأخرى، بدلاً من ان توهم نفسها بأن عليها الاقلاع عن الجمود أياً كانت الوجهة!.
ليست هناك مؤشرات لتحريك المراوحة على صعيد الملفات والجبهات الملتهبة والعالقة في الشرق الاوسط ككل كي يكون من الممكن التفاؤل بتحريكها في لبنان. لأجل ذلك، مصارحة الذات هنا واجبة، بأنها فترة انتظار وتحسّب، قبل أي شيء آخر، وفترة اعادة ترتيب البيوت الداخلية للفرقاء قدر الامكان، والأفضل فيها ان ترتب بشكل يتأتى منه الاقلاع عن المزايدة بين القوى التي لديها مصلحة موضوعية حقيقية في وضع حد لاختلال المعايير واختلال الوقائع التي يريد «حزب الله» ان يؤبده كحالة دائمة. هذا الاقلاع عن المزايدة رهن باعادة تكريس فضيلة «الاعتدال» كدليل عمل، الاعتدال من حيث هو «الأمر المتوسط بين طرفي الافراط والتفريط» كما قال الجرجاني في «التعريفات«.