تعيش الجمهورية حالاً من السوريالية السياسية.
هذا الانطباع يختصر المشهدية السائدة منذ أن حلّت الوصاية الإيرانية مكان الوصاية السورية. أمّا الفارق بين الاثنتين فيتمثّل في أنّ الأخيرة، أي الوصاية السورية، عملت على تثبيت السائد، أو تطويعه، وفقاً لمصالحها بحيث حافظت على المواعيد الدورية للاستحقاقات (رئاسية ونيابية وبلدية..) وضمنت في آن النتائج المطلوبة من هذه الاستحقاقات. أمّا الإيرانية فتعتمد تكتيكاً مختلفاً من خلال السعي إلى زجّ لبنان في ما يشبه «العمليات السياسية الانتقالية» في المنطقة عن طريق تعطيل مؤسساته، من أجل بلوغ لحظة تأسيسية جديدة تُعيد صياغة نظامه من جديد على نحوٍ يضمن مصالحها.
ذلك أنّ متابعة سريعة لما يجري في اليمن أو العراق وكذلك في سوريا، تُظهر أنّ القاسم المشترك في ما بينها هو ذهاب هذه الدول إلى «مراحل انتقالية» تمهّد لنظام سياسي جديد في كلّ منها، أو عملية سياسية تضمن مصالح محدّدة لإيران أو لممثّليها. مع العلم أنّ هذه الدول شهدت حروباً تبرّر في العادة الدخول في «مراحل انتقالية» تعبّد الطريق أمام عمليات سياسية كما كان حال لبنان قبل اتفاق الطائف. أمّا لبنان اليوم الذي ينعم بالسلم الأهلي منذ العام 1990 فلا مبرّر لولوجه «مرحلة انتقالية» سوى سعي «حزب الله» المستمر، ومن ورائه إيران، إلى زجّه في هذا المسلسل الاقليمي المتواصل.
وواقع الحال أنّ «حزب الله» الذي فشل في الوصول إلى هذه النتيجة عن طريق هزّات متتالية بالقطعة مثل الشغور الرئاسي ومن ثم التعطيل الحكومي وغيرهما، يسعى الآن إلى فرض هذه النتيجة من خلال جمع كل هذه الأزمات في سلّة واحدة، أي الاستفادة من تراكم الأزمات من أجل دفعها كلّها في «عملية سياسية» شاملة، تستهدف إحداث تعديلات جوهرية في الدستور وإن تجنّب الإشارة إلى ذلك بالاسم.
والوقائع تؤكّد أن ما لم يدركه الحزب بالتراضي يسعى إلى إدراكه بالفرض، مستبدلاً بذلك «حق الفيتو» المتعارَف عليه في النظام اللبناني بـ»حق الفرض» غير المتعارَف عليه في كل دول العالم بما في ذلك الأنظمة الديكتاتورية، التي تتيح لـ»الحزب الحاكم» فقط «حق الفرض».
والدليل على ذلك أداء «حزب الله» إزاء الاستحقاق الرئاسي، حيث يتلطّى بـ»حقّ» دستوري (بالمطلق) لتعطيل نصاب الجلسات، مع العلم أنّ الدستور نفسه لا يجيز تعطيل الاستحقاق الرئاسي بالذات. وبهذا المعنى فإنّ الحزب لم يكتفِ بـ»حقّ الفيتو» وإنّما اجتهد في توسيع اطاره ليصبح «حق فرض» المرشّح الذي يريد، مخالفاً بذلك طبعاً الدستور والنظام السياسي، الذي درج على سلوك طريق «التوافق» في مثل هذه الأزمات.
وهكذا، وبفعل الشغور الرئاسي، أصبح انتخاب رئيس للجمهورية متعذّراً، وكذلك استقالة رئيس الحكومة أو أي وزير طالما أنّ صلاحية قبول أي استقالة «لصيقة برئيس الجمهورية» غير المتوافر.
هذه سوابق لم يشهد لبنان مثيلاً لها في السابق، وكذلك أي بلد في العالم. لكنها وقائع «ثمينة» بالنسبة إلى «حزب الله» الذي يُمعن في ترسيخها من أجل هدف أصبح واضحاً: «مرحلة انتقالية» في لبنان تماماً كما هو مرسوم في سوريا واليمن والعراق تمهيداً لـ»شراكة» إيرانية في الشرعيّات العربية العتيدة.
هل تنجح إيران في ذلك؟
الإجابة عن هذا السؤال تتوقّف على الإرادات العربية التي يبدو واضحاً أنّها غير موافقة على هذا الاتجاه، تماماً كما هو الحال في لبنان، حيث تصرّ قوى وازنة على رفض هذا المسار بدليل رفضها منطق «الفرض» حتى اليوم، في الرئاسة وفي مؤسسات أخرى.
أمّا «حزب الله» فما زال يراهن على الوصول إلى هذه النتيجة، مؤسّساً لهذا المسار بإصراره حتى الآن على مرشّح وحيد للرئاسة هو الفراغ، أمّا بعده فالله أعلم.