ربّما من المبكر الحديث عن قراءة سياسية شاملة لنتائج الانتخابات البلدية والاختيارية. لكن بالتأكيد إنّ الخاسر الأكبر في هذه الانتخابات هي الحياة السياسية اللبنانية ومعها القوى السياسية وإن بدرجات متفاوتة بين هذا الحزب وذاك.
وإذا أمكن القول إنّ حزب «الكتائب اللبنانية»، مثلاً، أو تيّار «المردة»، أو حزب «الطاشناق»، أو «المستقلين» المسيحيين خرجوا معافين من هذا الاستحقاق، لا بل كرّسوا مكانتهم في الخارطة السياسية، فإنّ القوى الحزبية الأخرى تعرّضت لنكسات وخيبات كلٌّ في منطقة أو أكثر، على نحوٍ أظهر مجموعة من الأخطاء أو التعثّرات الصريحة والواضحة، بما في ذلك عند «حزب الله» وإن لم تنكشف العوارض إلى العلن بحكم تكوين الحزب المقفل والحديدي.
ذلك أنّ هذه الانتخابات، وهي الأولى منذ العام 2010، أماطت اللثام عن اعتراضات شعبية، كلٌّ في بيئته، إزاء ملفات محلية أو طائفية أو أخرى وطنية، مثل التحالفات غير الطبيعية أو التسويات غير المجدية.
وإذا كان المسيحيون صوّتوا للمستقلّين مثلاً أكثر من الحلف الثنائي بين التيّار «الوطني الحرّ» و»القوّات اللبنانية» لأنّهم وجدوا فيه حلفاً «غير طبيعي» بحكم اقتصاره على الرغبة في «إلغاء الآخرين»، فإنّ السُّنة أيضاً (في طرابلس) صوّتوا ضدّ حلف «غير طبيعي» بين تيّار «المستقبل» والرئيس نجيب ميقاتي وقوى أخرى تدور في فلك النظام السوري أو «حزب الله».
أمّا العنوان الأكبر الذي دفع شريحة كبيرة من اللبنانيين إلى التصويت ضدّ كل ما هو سياسي (أحزاب أو تيّارات) مع ميل واضح إلى ما يُسمَّى تجارب المجتمع المدني، حيث وُجدت، فهو شعور هذه الشريحة بعدم جدوى التسويات، أو الحوارات، الدائرة بين القوى السياسية مجتمعة على طاولة الحوار الموسّعة برعاية رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي، أو على المستوى الثنائي بين «المستقبل» و»حزب الله»، وتنامي حال الاهتراء في الدولة ومؤسّساتها وصولاً إلى الشغور في موقع رئاسة الجمهورية منذ أكثر من سنتين وحال التعطيل التي تُحاصر مجلسَي النواب والوزراء.
ومعنى ذلك أنّ شريحة من اللبنانيين التي سبق أن شعرت بما يشبه اليأس من آفاق المواجهة بين 14 و8 آذار بعد سنوات من اندلاعها في أعقاب اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وشعرت أنّ المواجهة اصبحت من دون جدوى، تواجه اليوم مرحلة يأس من آفاق الحوار بين الفرقاء السياسيين مع إحساس متنامٍ بعدم جدواه.
ذلك أنّ المواجهة الشرسة التي لم يشهد تاريخ لبنان الحديث مثيلاً لها بين فريقَي 14 و8 آذار ورغم تحقيقها إنجازات مثل انسحاب الجيش السوري من لبنان وإنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان والفوز في دورتين انتخابيتين، بلغت سقفها الأقصى مع بلوغ استحقاقات كبرى (انتخاب رئيس للجمهورية) تحتاج وفقاً للدستور إلى أكثرية الثلثَين، أي إلى توافق بين ضفّتي 14 و8.
لكن المأزق الذي بلغته الحياة السياسية والقوى السياسية هو أنّ الحوار الذي فُتح، ثنائياً أو موسّعاً، لإنجاز الاستحقاق الرئاسي، لم يصل هو الآخر إلى خواتيمه السعيدة، بحيث أصبح الحوار مثله مثل المواجهة من دون جدوى، ما أفقد السياسة معناها وكذلك القوى السياسية، بحيث ضرب هذا الاهتراء القوى السياسية والسياسة في آن.
ومعنى ذلك أنّ «حزب الله» أولاّ يتحمَّل مسؤولية هذا الدِرك الذي وصلت إليه البلاد، والذي عبّرت نتائج الانتخابات البلدية عن جزء يسير منه، وأنّ تورُّطه «غير الطبيعي» في سوريا واليمن والعراق من جهة، وسياسة إفراغ الدولة اللبنانية من معناها ووظيفتها من جهة ثانية، دفعتا اللبنانيين إلى الكُفر بالسياسة والسياسيين من دون تمييز.
فهذه الشريحة من اللبنانيين اقتنعت بوجوب المشاركة في حكومة واحدة مع «حزب الله» في حينه، ومن ثمّ في حوار معه، وبعد ذلك بترشيح النائب سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، لكن النتيجة كانت تعطيل الحكومة وعدم جدوى الحوار وبالتالي عدم انتخاب رئيس للجمهورية.
ربّ قائلٍ انّ الرئيس سعد الحريري يتحمّل مسؤولية فشل هذه المحطّات الثلاث كونه مَن بادر إليها. لكن الواقع هو أنّ المسؤولية تقع على مَن أجهض كل هذه المحاولات وليس على مَن حاول.
فهل يجري «حزب الله» مراجعته؟