ازدادت مؤخراً، نظريات «حزب الله» حول «التوافق» و«التفاهم» و«لبنان الواحد»، وفرد مساحات واسعة من الخطابات عن «العيش المشترك»، لدرجة أن جزءاً غير يسير من اللبنانيين أصبحوا يعتقدون بأن الحزب يقوم بإعادة نظر للسياسة التي ينتهجها ولكافة المراحل التي مرّ بها والتي تعرّض خلالها لهم بكل انواع الأذى، وأنه قد استخلص في نهاية المطاف أن لا مفر من التعايش في بلد ليس بمقدور أي فئة فيه الاستقواء على الأخرى بالسلاح.
آخر النظريات «الإصلاحية»، خرجت أمس الأوّل على لسان الرجل الثاني في «حزب الله» الشيخ نعيم قاسم حيث اعتبر من خلال رؤيته للوضع الراهن في البلد، أن «لبنان محكوم بالتوافق، وأي فريق يفكر في أن يهزم الأفرقاء الآخرين لن يتمكن من السير بلبنان نحو خلاصه». ودعا من خلال دعوته أو رؤيته «التبشيرية» إلى «التفاهم والتعاون في ما بيننا، وأن نقرّب المسافات».
منذ العام 2006 ونظريات «حزب الله» قائمة على «المؤامرة» والتآمر على «المقاومة» ونيّة النيل منها ومن سلاحها، واستهداف «الممانعة». وعطفاً على النظريات هذه، ارتكب الحزب فظائعه من معارك في الداخل ومنها غزوة السابع من أيّار، وعطّل الدولة ومؤسّساتها واستباح حرمات الناس وكراماتها بالإضافة إلى زهق أرواح أبرياء ولو عن طريق «الخطأ» بحسب ما كان وما زال يدّعي في بياناته التبريرية، بدءاً من الضحايا المدنيين في 7 أيّار مروراً بالشهيد النقيب سامر حنّا وصولاً إلى أطفال الرصاص «الطائش».
كل هذه النظريات التي يُغدق بها «حزب الله» في هذه المرحلة على الخصوم مثل الأحزاب السياسية اللبنانية، والأعداء كتنظيمَي «داعش» وجبهة «فتح الشام» اللذين دعاهما السيد حسن نصرالله مؤخراً إلى سلوك طريق الحوار ومراجعة سلوكهما في الحرب السورية، هي كلام حق في المُجمل، ولكن رائحة الباطل تفوح منه بـ«المُفرّق». فالتوافق بالنسبة إلى الحزب يعني منحه المزيد من التسلّط والقدرة على التحكّم بالبلد وتعطيل المؤسّسات، والاحتكام إلى سلاحه في اللحظة التي يشعر فيها بالحاجة إلى ذلك. وهذا ما عبّر عنه قاسم بقوله «إن التوافق يعني التنازلات المتبادلة في التفاصيل لمصلحة الأمور الكبرى. هذه مكرمة أن نتفاهم وأن نتنازل عن بعض الأمور الصغيرة، وليست مكرمة أن نحاول تخريب ما يمكن أن نبنيه معاً بتوافقنا».
عندما يدعو «حزب الله» إلى الشيء ونقيضه في الوقت نفسه، وعندما يرتجي الحلول والتوافقات السياسية في الداخل ويدعو إلى حوارات ثنائية وجماعية بهدف تهدئة التشنجات في الشارع وعلى المنابر والتي غالباً ما يقف هو وراءها، ثم يعود وينقلب عليها وعلى كل تعهّداته والتزاماته السابقة، يُصبح من السهل عليه تحوير الحقائق التي تُثبت إرباكاته في السياسة الداخلية وفي الميدان السوري، وهذا ما يُستدل من خلال تصاريح ومواقف سابقة كان أكد خلالها على ضرورة إنهاء الحرب السوريّة عن طريق الحل السياسي فقط لا غير، بكلام بديل لم ير فيه إلّا سقوط المزيد من دماء الأبرياء، كوسيلة وحيدة للحل السوري.
دعوات التهدئة التي يُطلقها «حزب الله» وإصراره على اعتماد أو سلوك سبل الحوار كبديل عن الكباش السياسي والعسكري، يُقابلها في مكان آخر بتطويع أبناء طائفته وإخضاعهم لمنطق «الخوف» من الغير وبثّ الرعب في قلوبهم والطلب منهم البقاء على أهبة الاستعداد تحسباً لساعة الصفر مع «التكفيريين» والتي يزعم بأنها أصبحت قريبة جداً. كما يعتمد استراتيجية تقوم على «أدلجة» صغار السن ضمن منظومة كشفيّة وجلسات مذهبيّة مُكثّفة، تتمحور حول الولاء الكامل لـ«ولاية الفقيه» والاقتداء بـ«الوليّ» الحالي و«التكليف» الصادر عنه، حتّى ولو تعارض مع نظريات وطروحات الحزب المُستجدّة.
في ظل هذه التقلّبات، لم يعد هناك من مجال للسير في الحوارات والطروحات التي يقوم «حزب الله» بفرضها على اللبنانيين حتّى ولو أطلق عليها تسمية سياسة «اليد الممدودة». والمؤكد أنها طروحات لا يُراد منها سوى الاستمرار في تعطيل البلاد وإلغاء صوت العقل أو مُصادرته، وتكريس واقع جديد في البلد يقوم على قاعدة «ما لنا هو لنا، وما لكم لنا ولكم». وتباعاً يتبيّن، أن مشكلة «حزب الله»، هي أنه يُطلق العنان لأضاليله مع حملات ترويجية على أنها حقيقة، وفي ظنه أنه قادر على خداع الناس على غرار فعلته مع أبناء طائفته، يوم أوهمهم بأن تدخله في سوريا هو لحمايتهم وحماية مُقدساتهم، فإذ به يغوص في دماء الشعب السوري ويُعيد أبناء البيئة الموعودة بـ«النصر» إلى مثواهم الأخير في نعوش تفوح منها رائحة الظلم.
لـ«حزب الله» تاريخ من الانقلاب على الدستور والأعراف وعلى الدولة ومؤسساتها جمعاء. وللحزب تاريخ يشهد على تهرّبه من تعهداته ووعوده وتنصّله من الحوارات منذ زمن اتفاق «الدوحة». وبما أن دعواته اليوم تأتي في وقت حسّاس حيث يمر البلد بمخاض عسير، ثمة من يجزم بأن دعوات الحزب هذه قابلة للتفخيخ أو التفجير في أي وقت، لكن ما يمنعه عن ذلك، هو فقط الوقت، والزمان والمكان الملائمين.