يستغرب كثيرون: كيف انتقلَ الجوّ اللبناني فجأةً، من الاحتقان والاختناق السياسي إلى أجواء التفاؤل بإمكان التوصّل إلى حلول؟ ومَن هو الساحر الذي استطاع تحريك الملفات الجامدة كلّها دفعةً واحدة، من النفايات والحوار إلى عمل مجلسَي الوزراء والنواب… بمعزل عمّا إذا كان ذلك سيوصِل إلى حلول أم لا؟
في الأشهر الأخيرة، ازداد الاقتناع داخل بعض الأوساط بوجود خطة مدروسة تكمن وراء أجواء العرقلة والتعطيل والفراغ التي يمارسها «حزب الله». والهدف من الخطة هو إيصال الوضع إلى الاهتراء الكامل، ما يجعل لبنان مستعدّاً لقبول الحلول التي ستُفرَض عليه، والتي ستكون تعبيراً عن انتصار المحور الإيراني في سوريا.
وفي ظلّ الفراغ الرئاسي وتعطيل مجلسَي الوزراء والنواب، تمّ خلق الملفات الخانقة اجتماعياً، كالنفايات ورواتب العسكريين والتحرّكات الشعبية العائدة إلى الساحة.
وتزامنَ ذلك مع دخول روسيا المباشر في الحرب، وقيامها بحماية الرئيس بشّار الأسد في منطقة الساحل والتمهيد لدعمه في دمشق. فقد راهنَ «حزب الله» على أنّ استعادة الأسد قبضتَه على سوريا ستُتيح فرضَ صيغة جديدة في لبنان، تتلاءَم مع مصلحة «الحزب»، وتمنَحه الهامش الأكبر من السلطة.
ولمسَ الذين تواصَلوا مع «الحزب» في الفترة الأخيرة أنّه بات يتوقَّع حسماً للوضع في سوريا، عسكرياً وسياسياً، في غضون أشهر قليلة، أي في الربيع المقبل كحدّ أقصى، وهذا ما سيستتبع حسم الوضع اللبناني في شكل موازٍ، لمصلحة المحور الإيراني.
وبالنسبة إلى «الحزب»، لم تتغيَّر هذه الصورة. ولذلك، هو يحافظ على اتجاه البوصلة الذي يتحرّك في اتّجاهه. لكنّ المعطيات الإقليمية التي طرأت في الأيام الأخيرة تدفعه إلى «إبطاء» ساعته لتتلاءَم وسرعة التطوّرات في سوريا. ومن هنا، يبدو «الحزب» في صَدد العودة إلى «الستاتيكو» الذي كان قائماً على الساحة الداخلية في المرحلة السابقة، أي مرحلة إدارة الأزمة.
والتطوّرات الإقليمية التي تدفع «الحزب» إلى إبطاء اللعبة في لبنان هي الآتية:
1- لم يسلك الملف السوري طريق الحسم السريع، وفق المتوقع. وتبيَّنَ أنّ الروس استطاعوا ضمانَ مصير الأسد في المنطقة العلوية، بموافقة القوى الإقليمية والدولية الفاعلة، على الأقلّ حتى التسوية السياسية. لكنّ مسألة إمساك الأسد بالعاصمة والطرق التي تربطها بالساحل لم تُحسَم.
ولوحِظ في الأيام الأخيرة أنّ الطيران الروسي لم يستطع أن يضمن طريق دمشق – حلب أو طريق دمشق – حمص، ما يعني أنّ ربط العاصمة بالساحل تحت نفوذ الأسد ما زال يحتاج إلى جهود إضافية، ووقتٍ إضافي، ما يفترض مزيداً من الانتظار في سوريا، وتالياً في لبنان.
2- لم تثمِر المفاوضات الدائرة في فيينا. وعلى العكس، بدا الإيرانيون متوَجّسين من تسوية لا تضمن استمرار الأسد في السلطة بعد «المرحلة الانتقالية». ولذلك، هم حاوَلوا الضغط على الجميع عندما لوَّحوا بمغادرة المفاوضات إذا لم يتمّ التجاوب مع طروحاتهم.
ومن هنا، يُفترَض أن يعيد «حزب الله» وضعَ لبنان الداخلي إلى «الستاتيكو» السابق، في انتظار الملامح الجديدة للتسوية في سوريا، أي «ستاتيكو» إدارة المرحلة بالحدّ الأدنى من التوافق.
3- سيكون الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، بعد حسمه الانتخابات الأخيرة، في وضعيةٍ أكثر استقراراً على المستويين السياسي والاقتصادي. لكنّ المأزق الأمني التركي، على خلفية الملف الكردي، سيبقى مرهوناً بتطورات الحرب في سوريا. وستنتظر إيران وسائر القوى الإقليمية ما ستتركه المتغيّرات التركية من انعكاسات على مجمل الوضع في الشرق الأوسط، ولا سيّما في سوريا.
4- أبدى السعوديون، من خلال وزير خارجيتهم عادل الجبير، رغبةً في مدّ يد الحوار إلى طهران. وثمَّة مساعٍ تبذلها سلطنة عمان على هذا الصعيد، ومِن ضمنِها جاءت زيارة وزير الخارجية العُماني لدمشق ولقاؤه الرئيس بشّار الأسد. وهذه الزيارة، وهي الأولى لمسؤول خليجي بهذا المستوى للعاصمة السورية، لم تكن لتتمّ لولا الحد الأدنى من الغطاء السعودي، أو عدم الممانعة. وقد يكون فتح القناة السعودية – الإيرانية ممكناً في مرحلة لاحقة.
لهذه الضرورات، أبطأ «حزب الله» اللعبة في لبنان. وسيعود لبنان إلى الإدارة المتعثِّرة للأزمة، وبالحدّ الأدنى، بعدما كان مطلوباً في الأشهر الأخيرة دفعُه سريعاً إلى الفوضى والتآكل… تسهيلاً لفرض التسويات.
لكنّ إدارة الأزمة لن تعني الحَلحلة في الشؤون الأساسية، كانتخاب رئيس للجمهورية أو عودة المجلس النيابي والحكومة إلى ممارسة العمل طبيعياً. والأرجح أن تكون الفلسفة المتَّبعة في هذه المرحلة هي «الترقيع»، كما هو الأمر في السنوات الأخيرة، حتى تفرض الظروف السورية ولادة التسوية… من الخاصرة!