«حزب الله» لا يحتاج كسواه إلى تنظيم حملته الانتخابية، فالمناسبات الاسبوعية في القرى الشيعية كافية لإطلالات متعددة الأشكال، إن لم تكفِ ذكرى أسبوع لأحد المتوفين فالذكرى الأربعينية أو السنوية أو العشرية أو المئوية أو الألفية لأحد الأولياء جاهزة، فضلاً عن الإطلالة الدائمة لأمينه العام ولحفلات الإفطار الرمضانية.
يمكن لأي صحافي ماهر أن يلخص لصحيفته الخطاب الحزباللاهي من غير أن يستمع إليه، ذلك لأنه يشبه الخطب اليمينية أو اليسارية بتكرار معزوفات عزيزة على قلوب محبيه وحدهم، ولأن حتمياته الانتصارية تضاهي حتميات ستالين، وحنينه إلى اللحن المهدوي وولاية الفقيه يشبه حنين المارونية السياسية المتداعية إلى ألحان تعصبها العنصري.
خطابه يستصغر الخصوم ويستخف بهم ويعيّرهم بأنهم «قليل عديدهم»، إذ طالما سأل جندي في جيشهم الإلكتروني عما إذا كانت مقاعد حافلة واحدة تفيض عن حجم معارضيهم العددي من الشيعة؛ وطالما تباهوا بقدرة الحزب على استنفار المقاتلين والغرائز وبامتلاكه عشرات آلاف الصواريخ.
فات هؤلاء المستنفرين أن يعرفوا أن حركات أكثر جماهيرية من «حزب الله» سقطت في الامتحان الوطني لغلبة الصبغة المسيحية على بعضها والإسلامية على بعضها الآخر. كما فاتت المشرفين على تنظيم الاستنفار أنهم كانوا قلة في البداية ثم بلغوا ذروتهم وسينتهون كما كل حركة معاكسة لمجرى الزمن ولقواعد التاريخ، وأن الأوطان لا تبنى بالمذاهب ولا بأساطير الأولين بل بالدساتير وحدها وبالقوانين.
خلافاً لكل الحملات الانتخابية، خطاب «حزب الله» خلو من أي مشروع إصلاحي. هو اختصاصه المقاومة أما الإصلاح فمن مهمات سواه؛ يتحدث عن الفساد السياسي والمالي كمراقب لا كشريك في السلطة السياسية، مع أنه في صميمها منذ البداية، إذ كان نظام الوصاية ينوب عنه ويتحدث باسمه، إلى أن خرج فتبدلت الأدوار وصار هو الذي ينوب عن نظام الوصاية ويتحدث باسمه آمراً ناهياً بالفتاوى والخطابات الموسمية.
«حزب الله» فائض عسكري، وما من فائض قوة إلا على حساب خواء سياسي، فهو يدير المعركة الانتخابية كأنه في حالة حرب، فلا يفتح حواراً مع الناخبين بل يصوب أسلحة. منافسوه ليسوا خصوماً بل أعداء، يستخدم ضدهم سلاح التخوين والتكفير والتهديد والوعيد ناقلاً المعركة من حيز التنافس الديمقراطي إلى حيز الصراع السياسي مع الشيطان الأكبر وأنظمة الخليج العربي. الاعتراف بالآخر وفتح باب النقاش معه هو المدخل إلى الديمقراطية، فكيف يستوي إغلاقه مع مبادئها، وهل هناك أكثر إيلاماً وقهراً من استبداد سياسي يتزيا بزي الدين؟
لا يسأل «حزب الله» نفسه عن أسباب انفضاض مؤيديه ومحبيه عنه. كانت شعاراته ملء الشوارع والبيوت من المغرب العربي حتى بلاد السند والهند، وكان موضع إجماع لبناني قل نظيره في تاريخ هذا الوطن الجميل.
أما اليوم فقد باتت مواقفه محل تنديد عالمي وغضب عربي وعزلة لبنانية يحاول كسر جدرانها باستخدام فائض قوته ضد آمال الشعوب العربية بالتحرر من استبداد الأنظمة وضد أبناء وطنه بترهيب الأهالي في أعالي كسروان وجبيل وعين الرمانة والبقاع الشمالي وفي مناطق أخرى يتولاها بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن شريكه في الثنائي، أو بترغيب أدوات رخيصة له في الطوائف الأخرى، فضلاً عن الاتجار بجوع اللبنانيين وعوزهم تلويحاً بتقديم مساعدات أو بحجبها، بعد أن دُفعوا إلى حافة الإفقار ودفع الوطن إلى حافة الدمار والموت. هذه كلها ليست عدة لتنافس انتخابي، بل أداة لكل أنواع العنف الكلامي والإعلامي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي.
«حزب الله» يعد ناخبيه بتسليم سلاحه للدولة القوية والعادلة، لكن بعد أن يتأكد من قوتها وعدلها، مع أنه أحد المتهمين بالانتقاص من سيادتها، لا لأنه يشارك في تعطيل القضاء ويستبيح مؤسسات الدولة فحسب، ولا لأنه وسع دائرة مربعاته الأمنية في كل الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية على حساب الدولة ومؤسساتها، بل لأنه ليس من مؤيدي النظام البرلماني الديمقراطي أصلاً.
من يقرأ تحليلات قادته واجتهاداتهم وفتاواهم في فقه الأوطان يعرف أن الوطن في قاموسم هو «مربط الخيل والغنم»، وأن ثلاثية «الأرض والشعب والسيادة» التي تقوم عليها الأوطان، يستبدلها «حزب الله» على طريقة الشاعر محمد الماغوط القائل، «آه لو نتبادل الأوطان كالراقصات في المقهى»، وأن نموذجه للدولة يتطابق مع ما في أنظمة السلالات والجمهوريات الوراثية من أصول استبدادية لا تستقيم معها لا ديمقراطية ولا انتخابات.
الخشبية صفة ألصقت بالخطاب اليساري الذي يكرر ما تحتويه كتب الأجداد القريبين، أما الخطاب المجافي للديمقراطية ومبادئها فهو ينتمي إلى الحقبة ما قبل الخشبية من تاريخ الكلام المنطوق أو المكتوب، ولا يضمه كتاب ولا يمكن العثور عليه إلا في مخيلة أهل الاستبداد الديني والسياسي.