ثمة مَن تَسَرَّع أخيراً باعتقاده أنّ الرئيس بشّار الأسد لم يعد في حاجة إلى «حزب الله»، بعد نزول الروس في اللاذقية. فالمطَّلعون يراهنون: تذكَّروا. لن يأتي يوم ينسحب فيه «الحزب» من سوريا، إلّا بعدما يتقرَّر مصيرها ومصير لبنان معها…
وجد الإيرانيون مصلحتهم في الضمانة الروسية للأسد. وأساساً، جرى تنسيق الخطوة الروسية مع طهران من خلال لقاءات حثيثة جرت أخيراً في موسكو، وضمّت كبار القادة العسكريين والديبلوماسيين الإيرانيين والروس.
وأقنعت موسكو حليفتها طهران بضرورة الرضوخ للحدّ الأدنى من التسوية المرحلية في الصراع الشرق أوسطي. وتقوم التسوية على المعادلة الآتية: تتراجع إيران ظرفياً للسعوديين في اليمن، مقابل ضمانة ببقاء الأسد في رسم مستقبل سوريا، ودور لحلفاء طهران في العراق، ولـ»حزب الله» في لبنان.
يعتقد الإيرانيون أنّ سوريا ولبنان حيويّان للمصالح الإيرانية أكثر من اليمن. بل إنّ العديد من المتابعين مقتنعون بأنّ طهران لم تحرّك الحوثيين في اليمن من أجل إسقاط الأمن في المنظومة الخليجية العربية، بل للضغط عليها، وعلى السعودية خصوصاً، من أجل دفعها إلى التنازل في سوريا.
فإيران ليست في وارد «خربطة البيت» الخليجي في الوقت الحاضر، وهي تعرف أنّ الأميركيين لن يسمحوا لها بضرب حلفائها. ولذلك، وضعت الملف اليمني على نار بطيئة، وقررت الذهاب إلى الملف الذي يجعلها قطباً إقليمياً لا يمكن تجاوزه، أي الملف السوري- اللبناني.
فعدم انتصار الحوثيين في اليمن، حالياً، لا يضرب مشروع التوسّع الإيراني حتى المتوسط، أمّا خسارة الأسد فتقضي على حلم «الهلال الفارسي»، لأنّ سوريا حلقة أساسية في الجسر الممتد عبر العراق إلى لبنان.
من هنا، وافقت طهران- آنيّاً- على تثبيت انتصارها في سوريا، فيما هي مطمئنّة إلى سيطرة «حزب الله» في لبنان، تاركةً اليمن والبحرين إلى مراحل قد تأتي لاحقاً.
وتعرف طهران حدود اللعب مع القوة الإقليمية الأساسية، أي إسرائيل، في سوريا ولبنان. فالإسرائيليون يسمحون لها بدعم حلفائها ومنع سقوطهم، ولكن ضمن الحدود التي لا تشكل خطراً عليهم. وقد عمدت إسرائيل إلى توجيه ضربات لـ»حزب الله» والإيرانيين والأسد في حالين: عندما قرّر الأسد تهريب أسلحة نوعيّة إلى «الحزب» في لبنان، وعندما تجاوز الخبراء الإيرانيون و»الحزب» حدودهم في الجولان.
ولذلك، يَطْمئنُّ الإيرانيون إلى أنّ لدى موسكو هامشاً أوسع في دعم الأسد، فالسلاح الروسي يوقِف تركيا عند حدودها، وهو لا يستثير إسرائيل إذا بقي مضبوطاً تحت إشراف روسي. وقد سارع الروس والإسرائيليون إلى عقد اتفاق للتنسيق العسكري في سوريا، ومثل هذا الإتفاق غير وارد بين إيران وإسرائيل.
وفي أيّ حال، تؤكد المصادر المتابعة أنّ فلاديمير بوتين نسَّق خطواته الجديدة في سوريا مع إيران، وتقاسم معها المهمات والمناطق في سوريا. فهناك مهمات يستطيع الروس تنفيذها لا الإيرانيون، كتدعيم الترسانة العسكرية الأسدية في الساحل. وهناك مناطق يعمل فيها الإيرانيون وحلفاؤهم، لا الروس، كالمناطق الداخلية من حمص إلى الجنوب مروراً بالحدود مع لبنان.
وقبل الخطوات الروسية في الساحل، لم يكن الأسد وحده في هذه المنطقة، بل كان معه كامل الحلف الإيراني: الحرس الثوري الإيراني ولا سيما فيلق القدس الذي يديره اللواء قاسم سليماني، و»حزب الله» اللبناني ومجموعات أخرى من العراق. وقبل أشهر، قامت «النصرة» و«جيش الفتح» بالتقدم نحو أرياف اللاذقية، فحضر سليماني، وأشرف مباشرة على رأس قادة عسكريين تابعين للنظام، على الترتيبات الدفاعية في منطقة الغاب.
ولكن، مع التدخل الروسي في الساحل، سيدعم الإيرانيون مواقعهم، خصوصاً في حمص التي يُخشى أن يؤدي سقوطها إلى قطع الطريق بين العاصمة والساحل. وقد قاموا أخيراً بإنجاز هدنة أوقفت القتال في الزبداني، المعقل الأخير لمسلحي المعارضة على الحدود مع لبنان.
وبناء على هذه المعادلة، يرتسم دور «حزب الله» الحاسم، على امتداد المنطقة الحدودية المتداخلة، من حمص وريفها إلى الجولان ومزارع شبعا. وإذ يقوم الإيرانيون بقيادة الجبهات، فإن دور «الحزب» هو خوض المعارك عملانياً على الجبهات.
ولطالما حقق «الحزب» إنجازات عسكرية حيوية للنظام. فالروس لن ينزلوا إلى ساحات المعارك في حمص وحلب وحماه ودمشق وأريافها، بل سيكتفون بكسر معادلة الرعب في حجم العتاد العسكري.
وقدمت روسيا ضمانات إلى الإسرائيليين، تقضي بمنع إيران من تقديم أسلحة لـ»حزب الله» تهدِّد أمنهم، ومنع «الحزب» وإيران من استخدام الجولان ورقة ضغط سياسي، سواء ضد إسرائيل أو ضد أي طرف سوري داخلي. ولم يجد الروس صعوبة في إقناع الإسرائيليين بذلك، فتجربة الأسدين الأب والإبن في الجولان على مدى أربعة عقود كانت مشجعة.
ظاهرياً، يبدو التدخُّل الروسي وكأنه عطّل الدور الإيراني في سوريا. ولكن، في العمق، تتكامل المهمتان الروسية والإيرانية لحماية الأسد ودوره في رسم مستقبل سوريا. والأفق الذي ينشده الطرفان هو تمكين الأسد من استعادة سوريا كاملة.
فالروس سيحافظون على المعقل العلوي، فيما الإيرانيون سيتكفلون بالمناطق الأخرى التي تربط الساحل بالعاصمة، والمحاذية للمناطق الحدودية اللبنانية حتى الجنوب، حيث يتموضع الشيعة خصوصاً.
ويحاذر بوتين الوصول بسوريا إلى التقسيم لأنه خائف من عدوى الدويلات الإسلامية داخل الحدود الروسية. كما تتمسّك إيران بسوريا كاملة إذا بقيت تحت نفوذ حليفها الأسد. لكنها تصبح مع التقسيم إذا كان الأسد قيد السقوط. وعند هذه النقطة لا يختلف الإيرانيون مع الروس الذين يريدون أيضاً، بأيّ ثمن، تثبيت الأسد على رأس السلطة المركزية، على كامل سوريا.
وعندما رفع الروس مستوى دعمهم العسكري للأسد إلى مستويات غير مسبوقة في اللاذقية، لم يكونوا في صدد التمهيد لدولة علوية، بل لإعادة سوريا إلى الأسد. وسبيلهم إلى ذلك هو مساومتهم للولايات المتحدة والأوروبيين: دعونا نشكِّل معكم، ومع الأسد، حلفاً على ضرب «داعش».
وسدّد فلاديمير بوتين «ضربة معلّم» ناجحة، مستفيداً من مأزق وقع فيه الآخرون. فالأميركيون يفشلون في ضرب «داعش»، والأوروبيون يتلقّون تبعات أزمة اللاجئين التي لا يجدون لها حلاّ.
ولكن، هل يبدو واقعياً أن يستعيد الأسد سيطرته على كامل سوريا؟
الأرجح أنّ توازن القوى يجعل هذا الأمر مستحيلاً. وفي المقابل، يستحيل على أي من خصوم الأسد إسقاطه والسيطرة على سوريا كاملة، خصوصاً بعد التدخل الروسي المباشر، بسكوت وغطاء ضمنيين من واشنطن والأوروبيين وبعض العرب.
وسيكون السيناريو الأقرب هو تكريس مناطق النفوذ: الأسد و»حزب الله» في المنطقة الممتدة من الساحل إلى دمشق فالجولان. والجماعات السنّية في المناطق الأخرى. ولذلك، يقول العارفون، لن ينسحب «حزب الله» من سوريا مهما طال أمد الحرب هناك. وهو سيبقى هناك إلى أن تنتهي الحرب نهائياً، ولو استمرّت 100 عام!
ففي تلك اللحظة، لن يكون مصير سوريا وحدها قيد الإرتسام، بل أيضاً مصير لبنان والعراق وسائر الشرق الأوسط، ولا سيما مصير الفلسطينيين ومستقبل الصراع مع إسرائيل. فهنا يكمن المغزى الحقيقي للأحداث منذ ما سُمِّي «الربيع العربي».