«وما سعاد غداة البين إذ رحلوا إلا أغن غضيض الطرف مكحول وما تمسك بالوصل الذي زعمت إلا كما تمسك الماء الغرابيل كانت مواعيد عرقوب لها مثلا وما مواعيده إلاّ الأباطيل» (كعب بن زهير)
عشية حفلة حلف كنيسة مار مخايل سنة 2006، سألني أحد الصحافيين عن رأيي في العلاقة بين «حزب الله» و»التيار الوطني الحر»، فكان جوابي الفوري أنّه زواج متعة! وعندما ألحّ عليّ بشرح ما قلته، أجبته أنّ ما يسعى كل طرف من الطرفين بهذا الحلف هو مسألة محدودة بالوقت وتقاطع المصالح، بغض النظر عن طول دوامه، فعندما تتضارب المصالح بنحو غير قابل للتوفيق، سيُفضّ الزواج حكماً.
لا يمكنني اليوم افتراض إن كانت علاقة «التيار العوني» مع مجموعة الممانعة بدأت قبل أم بعد عودة الجنرال من غربته في فرنسا. هذا على رغم من كل تلك الاتهامات التي ساقتها جماعة الرابع عشر من آذار حينها، وذلك لتبرئة نفسها من تهمة محاصرة الجنرال والتآمر عليه، مما أحرجه وأخرجه، ليبحث عن حليف خارج المألوف. وبكل موضوعية، أنا مقتنع أنّ الجنرال ما كان ليذهب إلى هذا الخيار لو أنّ جماعة الرابع عشر من آذار فتحت له أبوابها ليكون زعيمها الأوحد، لترشحه مباشرة لرئاسة الجمهورية، حلمه الأكبر، بغض النظر عن الأثمان الأخلاقية والمبدئية. لكن بموضوعية أيضاً، كيف كان لوليد جنبلاط أن يتقبّل زعامة الجنرال قبل أن يطمئن الى التوازنات الهشّة في الجبل؟ وكيف كان لـ»القوات اللبنانية» أن تقبل به، وسيل الدماء بين الطرفين ما زال حياً في الذاكرة؟ وكيف للزعامات المسيحية الأخرى أن تسلّم بزعامة واحدة لا منازع لها، وهي بذلك تلغي نفسها وتقطع الطريق على نفسها إلى رئاسة الجمهورية؟ فقصر بعبدا هو الحلم الذي كان على الدوام موضع مساومات ومعارك مدمّرة بين زعامات الموارنة، وصلت إلى حدّ بيع السيادة مراراً. الطرف الوحيد الذي كان شبه محايد في ذلك الوقت هو تيار «المستقبل»، لا بل أنّ معظم قياداته كانت تعتقد أنّ التحالف مع «التيار الوطني الحر» هو الأقرب إلى المنطق، على رغم من الشطحات غير المشجعة لرئيسه.
في المحصلة، فقد تمكّن «حزب الله» يومها من إيهام من تحالفوا معه في انتخابات سنة 2005 بالأمان، في حين انّه كان يُعدّ الخطط البديلة لكبح جماح من تحالف معهم. ببساطة، وهمُ استيعاب «حزب الله» لبنانياً، وسحبه من يد النظام السوري يومها، كان أبلغ تعبير عن قصر نظر قيادة الرابع عشر من آذار. فمنذ مدة سبقت، كانت قد أصبحت قيادة سوريا مرهونة للحزب، وقدرتها على المناورة ضاقت بمقدار كبير بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. في المحصلة، تلقّف «حزب الله» طموح الجنرال بخفّة نشّال، وتمكن بالتالي من فك الحصار الطائفي عليه بالتحالف مع طرف مسيحي وازن. زواج المتعة هو في أنّ كلاً من الطرفين وجد في الزواج ما يحتاجه، الجنرال باستدامة حلمه الرئاسي، والحزب بفك العزلة.
لكن، لو نظرنا بعين التاريخ والواقع، لكان من المنطقي استنتاج عدم إمكانية دوام الزواج. ما يجمع الجنرال والسيد فقط هو رفضهما «اتفاق الطائف»؟ وذلك بشكل علني عشية توقيعه. لكن الأول رفضه لأنّه تمّ تجاهله في مسار المفاوضات التي لم تصل به الى سدّة الرئاسة، وقد ظنها قاب قوسين. أما الثاني فقد اعتبر الاتفاق «تأكيداً للهيمنة المارونية على الحكم في لبنان»، كما أنّه سمّى حالة الجنرال في بعبدا بأنّها «حالة إسرائيلية»، وكل ذلك موثق صوتاً وصورة. كما أنّ الجنرال أكّد أنّ «حزب الله» هو «حالة إيرانية». في المحصلة، فقد تغاضى نصرالله عن «الحالة الإسرائيلية»، وتغاضى الجنرال عن «الحالة الإيرانية» حتى يتمّ الزواج.
البقية أصبحت معروفة، والواقع هو أنّ عالم السياسة ليس فيه لا مبادئ ولا أخلاقيات، بل مجرد صفقات زواج متعة!
لكن، اليوم، «شو عدا ما بدا حتى بدأ «النقار»، وهو عادة مقدّمة لازمة لاحتمال الطلاق؟ وهل يُعقل أنّ التعليقات المتعدّدة لنواب وقادة في «التيار الوطني الحر» هي مجرد رأي معزول أو مجرد شائعات من عزول؟ هناك في الواقع احتمالان: الأول هو مجرد ابتزاز يمارسه «التيار الوطني الحر» لتحصيل مكاسب إضافية من مغانم الوجود في الحكم. أما الثاني، وهو ما أرجّحه، فهو محاولة «التيار البرتقالي» تقديم أوراق اعتماد عند من يحاصر «حزب الله»، بعد أن تبيّن أنّ الخناق أصبح ضيّقاً، وأنّ الأمل بفكّه أصبح مستحيلاً.
الواضح أنّ تعدّد الشخصيات المهاجمة يوحي أنّ القرار بالهجوم مركزي الطابع، أم المحتوى فمتعدّد، ومتناقض بعضه مع بعض، وفيه مغالطات فاضحة تنمّ عن جهل مدقع في كثير من الأمور، حتى أنّ بعضه شديد الخطورة على سمعة الحزب والتيار معاً، كقول النائب عطاالله، بربط اتهام تياره بالفساد بالردّ باتهام «الحزب» باغتيال الحريري، وقد يكون ما قاله مجرد زلّة لسان، أو أنّه الحقيقة المرجّحة. لكنه بقوله هذا يعترف بالجريمتين، أي الفساد من جهة تياره واغتيال الحريري من قِبل الحزب.
أما كلام زياد أسود عن أنّ القتال يحتاج البحبوحة، فهو ينمّ عن جهل بقواعد هذا الأمر، فمن يعش في بحبوحة لا طاقة له على القتال، والدول الغنية عندما تقاتل، فهي تتحصّن وراء التكنولوجيا لخفض إمكانية تعرّض جنودها أو مواطنيها للخطر. أما نوعية القتال الذي يعوّل عليه الحزب فهو القدرة على استدراج من لا شيء عنده ليخسره للقتال، فيكسب، حسب قول نصر الله، النصر في الدنيا والشهادة على طريق الآخرة. هذا يعني أنّ سياسة الإفقار لم تكن بالمصادفة في لبنان، بل انّ مواجهة كل سياسات الحريري الأب وعرقلتها وإفشالها، كانت لأنّها قد تنتشل الناس من الرغبة بالشهادة في المعركة واستبدالها بشهادة من الجامعة. فما فعله الحزب على مدى العقود الماضية، كان خلق مجتمع بديل داخل طائفته، مرتبط به مادياً بكل تفاصيله، وهو ما يدعونه الدويلة. لذلك فإنّ تحليل النائب الأسود، مع تشجيعي له على الاستمرار في نشر الغسيل، لا يصح منطقياً.
علينا الآن تبيان الخيط الأبيض من الأسود، ونرى كيف ستكون الأيام المقبلة. وهل سيصلح العطار ما أفسده الأسود؟