لسنوات، كان يصعب على كثيرين أن يصدّقوا كيف يرتضي حزب الله النكسات السياسية المتتالية لحليفه التيار الوطني الحر، من تطيير معمل كهرباء دير عمار إلى نتيجة الانتخابات النيابية في جزين، مروراً بكل ما شهده العهد العونيّ… من دون أن يمارس ضغطاً على الحلفاء، حتى لو كان واثقاً بأن خلافهما سيلحق ضرراً كبيراً بكل منهما وبفريقهما السياسي مجتمعاً.
في خطابين قبل الانتخابات النيابية الأخيرة وبعدها، شرح الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله ما سبق لمسؤولي الحزب أن كرّروه على كل المستويات حول موقف الحزب من التدخل لدى الحلفاء، قائلاً: «أخلاقنا، كما مبدأ الاحترام لاستقلالية الحلفاء، لا يسمحان بذلك أياً كانت النتيجة».
تزامن الاستحقاق الرئاسي مع تحولات سريعة في المنطقة، وارتفاع وتيرة تبادل الرسائل الأمنية بين الحزب وإسرائيل، كل ذلك سرّع من تبني شورى القرار في الحزب لترشيح رئيس تيار المردة سليمان فرنجية. وكان نصرالله واضحاً في لقائه الأخير مع رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل بطلب دعم فرنجية. وهو كان واثقاً بأن مكانته لدى باسيل تخوّله طلب ذلك من دون إحراج ومن دون أن يُرفض طلبه، خصوصاً إذا أرفقه بالحديث عن الضمانات. لذلك، فإن ردة فعل الحزب الغاضبة لاحقاً كانت منسجمة مع الثقة العميقة المتبادلة بين السيد وباسيل، رغم أن الأخير عبّر، في اللقاء الشهير، بكل المفردات والعبارات الممكنة عن عدم قدرته على تلبية هذا الطلب، وافترض أن الحديث الذي لا بد أن يُستكمل في قضايا كثيرة أخرى من بينها الاستحقاق الرئاسي، قد انتهى في ما يخص فرنجية. وإذا كان كثير من الأفكار المتبادلة بين الحزب والتيار مشكوكاً في دقتها لكل من الطرفين، فإن إحداها كانت تفيد – بالنسبة إلى باسيل – أن الحزب سيذهب إلى الاستحقاق الرئاسي: أولاً، بموقف موحّد مع الرئيس نبيه بري، وثانياً، بالتنسيق مع التيار الوطني الحر. هكذا، بقي في المقاربة العونية جانب إيجابي يمكن التعويل عليه، خصوصاً في ظل ما دأب حزبيون تأكيده لأصدقائهم العونيين بأن الموقف من ترشيح فرنجية مبدئيّ، لكنّ الحزب يترك إدارة المعركة للرئيس بري، مع توصية دائمة بعدم التصعيد و«تفضيل عدم الرد» لأنها مجرد غيمة صيف عابرة.
في تلك المرحلة، وقبل الجلسة الرئاسية ببضعة أيام، كان باسيل يستمع لندبيات عونية مكرّرة عن خيبة أمل من الحزب قبل أن يخيب ظنه هو، قائلاً إنها مجرد غيمة صيف وتمر. لكن، في وقت كان كثيرون يتعاملون مع دعم ترشيح فرنجية بوصفه إحراقاً له، كان باسيل نفسه يؤكد أن دعم الحزب بهذا الشكل لأي مرشح يمنحه دفعاً هائلاً. وحين كان كثيرون يقولون إن ترشيح جهاد أزعور يحرقه ويحرق فرنجية معه، كان رئيس التيار يؤكد أن من يراهنون على ذلك لا يعرفون الحزب.
ما شهده الأسبوعان اللذان سبقا جلسة 14 حزيران أظهر أن الأمر يتجاوز غيمة صيف بكثير، خصوصاً بالنسبة إلى التيار الوطني الحر. فطوال 18 عاماً من المعركة العونية المفتوحة مع 14 آذار وكل من يقف خلفها، لم يستشعر الرئيس ميشال عون وباسيل غضباً يستوجب القول في مؤتمر صحافيّ إن هناك تدخلاً في «شؤون التيار الداخلية وتحريضاً لعدد من المسؤولين والنواب في التيار على خيارات مختلفة». قال باسيل ذلك بعد تيقّنه من نجاحه في حصر هذه التدخلات بنائب حزبيّ واحد (طالما لا يعتبر نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب نفسه حزبياً منذ أكثر من عام)، وحرص على وصف ما يحصل بأنه «منافٍ للأخلاق»، لمعرفته بالتأثير الذي تتركه هذه الكلمة لدى الأمين العام للحزب وفي أسرار علاقتهما.
هكذا تدرّجت الأزمة من نزاع موضوعيّ حول الرئاسة، إلى نزاع حول مفهوم الشراكة التي تمثل العَمود الفقري لتفاهم مار مخايل، وصولاً إلى اتهام عونيّ للثنائي بالتدخل في شؤون التيار الداخلية. فبدا أن ربط النزاع عند حدود الاستحقاق الرئاسي قد تجاوزه الزمن. ورغم أن باسيل أوضح تكراراً أن الحوار المشروط تجاوزه الزمن أيضاً، وأنه يمكن أن يكون ترشيح فرنجية بنداً أولَ في الحوار، فيكرر هو موقفه الرافض، لينتقل الطرفان إلى بقية البنود، إذا لم يكن القبول بفرنجية شرطاً عند الحزب للاستمرار في الحوار… تواصل ماكينة الحزب السياسية الحديث عن الحوار من دون أن تطرق أبوابه أو تضع آلياته. علماً أن جمود الحوار بين الحزب والتيار يقابله تطور في الحوار بين التيار وكل من الكتائب ونواب تغييريين ومستقلين وقوى إقليمية (لا تقتصر خليجياً على قطر). وإذا كانت «حماية لبنان» تشكل بنداً متفقاً عليه بين التيار والحزب، وخلافياً بين التيار وسائر أفرقاء التقاطع على أزعور، فإن بنوداً كثيرة يتفق عليها مع الاخرين، ويفترض التيار انه يمكنه التفاهم حولها مع الحزب ايضا، مثل:
– الحفاظ على علاقات لبنان مع الخارج وتطويرها، وتحييده عن النزاعات التي لا مصلحة له فيها.
– التمسّك بالقاعدة التمثيلية لرئيس الجمهورية كشرط ميثاقي أساسي للحفاظ على دوره.
– تثبيت قاعدة احترام التوازن والتمثيل النيابي والشراكة الدستورية في تشكيل الحكومات.
– رفض تكريس أي موقع لأي طائفة في المناصب الوزارية.
– منع أي استغلال لمبدأ الميثاقية بهدف التعطيل التعسفي لعمل السلطات.
– العمل على إقرار القوانين الإصلاحية اللازمة ومنها: الموازنة، الكابيتال كونترول، إعادة هيكلة القطاع المصرفي، السرية المصرفية، استعادة الأموال المحوّلة، كشف الحسابات والأملاك للقائمين بخدمة عامة.
– إنجاز التدقيق الجنائي وتحديد المسؤوليات تأسيساً لنظام المحاسبة والعدالة وللممارسة المؤسساتية السليمة.
– إقرار اللامركزية الإدارية والمالية الموسّعة.
– تنقية الإدارة من شوائب التوظيف الزبائني وإعادة هيكلة القطاع العام وفقاً لمعايير الكفاءة والحاجة.
– إقرار قانوني عصري لاستقلالية القضاء، يفصل بين السطلة القضائية والسلطة السياسية.
– إنهاء التحقيق وإصدار الأحكام في جريمة انفجار مرفأ بيروت.
– ضبط الحدود البرية والبحرية بما يمنع التهريب ويزيد مداخيل الدولة.
– إنهاء مهزلة التصويت البدائي في مجلس النواب واعتماد التصويت الإلكتروني.
غالبية هذه البنود أوردها التيار في ورقة «الأولويات الرئاسية» التي عرضها على الكتل النيابية. لكنّ ظروف تلك المرحلة وعامل الثقة المفقود بباسيل يومها، حالا دون تطور النقاش، فيما يمكن لغالبية هذه البنود أن تشكل نواة لتحويل التقاطع الظرفي على أزعور إلى تقاطع تشريعيّ – سياسيّ أيضاً. أما علامات الاستفهام حول التقاطع الهجين بين التيار والقوات والتغييريين والكتائب والمستقلين فتقابلها علامات مشابهة حول تقاطع الثنائي وحلفائه مع رئيس مجلس إدارة بنك «سوسيتيه جنرال» أنطون الصحناوي.
لا شك في أن التيار الوطني الحر وحزب الله يريدان التحاور، ولا يريدان لعلاقتهما أن تنتهي بما بلغته على مواقع التواصل الاجتماعي. لكنّ معضلة البند الأول لا تزال تحول دون تحديد مشترك لمعنى هذا الحوار: الحزب يريده حواراً في كيفية قبول التيار بفرنجية، والتيار يريده حواراً في «غير فرنجية». ومع مرور الوقت ومراكمة السلبيات، لم تعد عبارة «غيمة صيف عابرة»، تمثل وصفاً صحيحاً لما تمر به العلاقة بين الطرفين.