رغم كلّ شيء نجحَت قمّة كمب ديفيد إلى حدٍّ ما في إعادة ترميم العلاقة بين العاصمة الأميركية والعواصم الخليجية، من دون إلحاق أيّ أذى بالاستراتيجية الأميركية الجديدة القائمة على التفاهم مع طهران.
في أيّ حال، لم يكن متوقّعاً أن تذهب التباينات الأميركية – الخليجية في اتّجاهات دراماتيكية، لألفِ سبب وسبب.
لكنّ تطمينات الرئيس الأميركي والتي حرصَ على توزيعها بسَخاء قبل القمّة وخلالها وبعدها قد لا تكون أدّت إلى إزالة كلّ أسباب القلق التي ما برحَت تقضّ مضجعَ عواصم الدوَل الخليجية منذ حصول التفاهم بين واشنطن وطهران.
فالمشروع الإيراني الكبير باتّجاه الشرق الأوسط والذي وضعَه يوماً الملك الأردني بالسعي لتحقيق الهلال الشيعي، والمواجهة الخليجية له في العراق أوّلاً ثمّ في لبنان وخصوصاً في سوريا بغية قطعِ أوصال هذا الهلال، كلُّ ذلك أدّى إلى حربٍ ضارية توسّعَت لتصلَ إلى عمق الخليج نفسِه في اليمن بعد مواجهات متنقّلة طالت البحرين والمنطقة الشرقية الغَنية بالنفط في السعودية.
والمبعَث الأكبر للقلق تلك القوّة التي ظهرَ بها الحوثيّون وأنصار الرئيس السابق علي عبدالله صالح، والتي ترافقَت مع مواقف إيرانية جديدة من نوعِها تَطال الاستقرار الداخلي للسعودية.
لذلك اتّفقَ الزعماء الخليجيون على المطالبة بإبرام اتّفاقية دفاع مشترَك ما بين الولايات المتحدة الاميركية ودوَل الخليج كضمانة مكتوبة مقابل التفاهم الاميركي مع إيران. لكنّ البيت الابيض رفض هذا المطلب مفضّلاً الإبقاءَ على البروتوكول الشفهي القائم حالياً.
وبرّرَ البعض الرفضَ الاميركي كون أيّ معاهدة مكتوبة ستُلزم الولايات المتحدة الأميركية بإرسال قوّات عسكرية فور حصول أيّ اضطرابات كمثلِ واقع الحال في اليمن الآن، فيما القرار الأميركي هو بإدارة الأزمات ودعم الحلفاء في أرجاء العالم ولكن من بعيد إلّا في حال التهديد المباشر للمصالح الحيوية الأميركية.
لكنّ زعَماء الخليج الذين قرّروا تخفيضَ مستوى المشاركة في القمّة رسموا علامات استفهام حول خلفية القرار وما إذا كان ذلك يعود لوجود «تخوّف» أميركي من احتمالات حصول اضطرابات مستقبلاً كما تؤشّر التصاريح الإيرانية، وبالتالي تجنّب الالتزام بأيّ خطوات عسكرية منذ الآن.
منسّق شؤون الشرق الاوسط في البيت الابيض روبرت مالي كان قد استبقَ انعقاد القمّة بإبلاغ وزراء الخارجية للدول الخليجية بأنّ هكذا اتّفاقية غير مناسبة في الوقت الراهن وأن لا داعي للهَلع، فبلادُه ملتزمة أمنَ الخليج من دون وجود معاهدة خطّية.
وحسبَ فريدريك ويهري Frederic Wehrey الخبير بالشؤون الخليجية فإنّ هذا الموقف يلاقي توافقاً ما بين البيت الأبيض والأمن القومي ووزارة الخارجية كونه «مكلف» في منطقة دائمة التوتر والحساسيات.
وفيما جرى إيكالُ وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن نايف مهمّة إعادة صياغة العلاقة مع واشنطن وفق أسُس واضحة وسليمة، باشرَت إيران في سياسة إعادة تعديل مواقفها، حيث أعلنَ مرشد الثورة بأنّ التوافق بين الجميع يضمن أمنَ الخليج.
وهذا سيَعني أنّ الهدنة السارية الآن في اليمن ستشكّل وقفاً دائماً لإطلاق النار والبَدء بصياغة حلّ سياسيّ، أي استعادة السقف المرسوم للأحداث بعدما خرقَته عمليات قصف المدن السعودية واستهداف طائرات التحالف لقيادات الحوثيّين وعلي عبدالله صالح.
أمّا في سوريا فالحرب مستمرّة وقائمة، ولا تبدو نهايتها قريبة، ولو أنّ وقفَ خرقِ الخطوط الحمر قد يَسري أيضاً على سوريا ولبنان.
فالمعركة الدائرة في القلمون والتي شارفَت على نهايتها مع سيطرة حزب الله والجيش السوري على معظم تلالها، ما يَسمح بإحكام السيطرة الناريّة على الوديان، إنّما لن يعني ذلك استعادة الهدوء قريباً في هذه البقعة الملاصقة للحدود اللبنانية.
صحيحٌ أنّ القنوات السرّية عادت وفتِحت ما بين النظام السوري والمسلحين المحاصرين في الزبداني لدفعِهم للانسحاب من دون معركة باتّجاه درعا، لكنّ النتيجة غير مضمونة وقد تعود المعارك بعنف إذا ما فشلَت هذه الوساطات. وفي جرود عرسال حيث تجَمّع المسلحون بعد انسحابهم من تلال القلمون، فإنّ الأمور تبدو أشدَّ خطورةً، وهنا بيت القصيد.
ويبدو أنّ حزب الله الذي تَحَضّرَ لمعركة القلمون جيّداً فوجئ بالانهيار السريع لمجموعات النصرة، وهو ما جعَله يفكّر بمطاردة هؤلاء المسلّحين حتى جرود عرسال لإنهاء خطرهم على البقاع الشمالي مرّةً واحدة. وهو ما يعني أنّ مجموعات حزب الله ستواصل تقدّمَها باتّجاه جرود عرسال حيث ستخوض معاركَ للسيطرة على كلّ هذه الجرود.
في المقابل ستؤدّي هذه المعركة الخطرة والحسّاسة إلى فرار المسلّحين إمّا باتّجاه الداخل السوري أو خصوصاً باتّجاه بلدة عرسال والمخيّمات المحيطة بها. عندها ستكون الحكومة اللبنانية مضطرّةً لإنجاز ترتيبٍ ما يَسمح بتولّي الجيش بشكل كامل وجدّي أمنَ البلدة وإنهاءَ حال التوتّر التي تعيشها منذ زهاء ثلاث سنوات.
ومن المفترَض أن تُقدِم الحكومة اللبنانية على ذلك الترتيب بتشجيعٍ أميركي في إطار خطّة ضرب الإرهاب ولكن مع إيلاء وحدات الجيش دون غيرها كاملَ السلطة في جرود عرسال أيضاً، والتي من المفترَض أن ينسحب منها حزب الله بشكل كامل وفِعليّ. ذلك أنّ واشنطن تريد تثبيتَ الحدّ الأدنى من الاستقرار الهشّ الذي تعيشه الساحة اللبنانية على المستويَين الأمني والسياسي.
وربّما لذلك طلبَت واشنطن من سفيرها في بيروت ديفيد هيل توجيه «نصيحة» إلى كافّة المسؤولين اللبنانيين، لا سيّما تيار المستقبل، بضرورة تجنيب لبنان أيّ هزّات، أكانت أمنية أم سياسية، وخصوصاً حكومية، ما يعني شراءَ «المشكل» ومعه الوقت.