هل هو “الغدر” الثالث لرئيس الحكومة المستقيلة سعد الحريري، أم أن الرجل وجد نفسه مطوقاً من كل الجهات ففضل أن ينسحب؟ أم أنها “تعليمة” الساعات التي استبقت وصول نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون السياسية دايفد هيل إلى لبنان اليوم لكي يُبنى على الزيارة مقتضاها؟
اعتذر الحريري عن التكليف لرئاسة الحكومة، تعددت القراءات وبقي الواقع واحداً. تشتت في المواقف حتى داخل الحلف الواحد، وإرتباك قابله رئيس الجمهورية ميشال عون بالإصرارعلى السير بموعد الإستشارات اليوم والذي سيحمل الكثير من المفاجآت، لا سيما مع ترقب إعلان الحريري موقفه والمرجح أن يتجه باتجاه تبني ترشيح الوزير السابق حسان دياب.
لكن مهما كان موقف الحريري فإن خطوته بالأمس جاءت مفاجئة للثنائي الشيعي أولاً وأخيراً. زار رئيس مجلس النواب نبيه بري مستنجداً بمساعدته ليكون رئيساً للحكومة، أدار بري محركاته وإذا بالحريري يقدم اعتذاره الثالث عن تكليف سعى إليه بكل جهده حارقاً في دربه كل اقتراح بديل.
كان بإمكان الحريري أن يكون رئيساً مكلفاً اليوم، يقرر مصير البلاد بيده ويفاوض من موقع القوي. لكنه انسحب مجدداً وغاب عن السمع ولم يبلغ الجهة التي تسعى إلى إنقاذه عن اسم البديل. خطوة لم يجد “الثنائي الشيعي” تفسيراً لها غير أنها “تعليمة” تلقاها كي ينسحب لمصلحة السفير نواف سلام مع فارق التوقيت.
كانت الخطة “ألف” بالنسبة إلى “حزب الله” هي تكليف الحريري، فلم تعد موجودة، استعيض عنها بالخطة “باء” والتي هي منع وصول نواف سلام لرئاسة الحكومة. وبينما يصر رئيس الجمهورية على موعد الاستشارات استمرت قوى الثامن من آذار في عملية البحث عن اسم بديل عن الحريري، رافضةً الدخول في تسميات خشية أن تتعرض أي شخصية مقترحة لضغوطات لحثها على الانسحاب، والأمور تتوضح اليوم مع انطلاق الاستشارات في بعبدا.
أمّن “الثنائي الشيعي” بالتعاون مع حلفائه قرابة السبعين صوتاً للحريري، يمكن تجييرها، إلى مرشح آخر خصوصاً بعد أن عزف الحريري عن تسمية البديل عنه لكن الخوف لو سحبت دار الفتوى الغطاء عن تمثيله.
وفق توصيفهم فإن “الحريري عدو نفسه، شطبه الأميركيون والسعوديون وشطبته “القوات”. ورث عن والده الشهيد رفيق الحريري 4 مليارات دولار وشعبية واسعة ورئاسة حكومة ولم يعرف كيف يحافظ على إرثه”. وبموازاة الاعتذار الثالث، تمت بنجاح أمس عملية تعويم اسم سفير لبنان السابق في الأمم المتحدة نواف سلام، كمرشح بديل عن الحريري. تبلغها بعض المراجع اللبنانية بشكل واضح، قبل ساعات من موعد الاستشارات النيابية الملزمة لتسمية رئيس الحكومة المقبلة.
صباح الأربعاء
عند ساعات الصباح الأولى كانت المعلومات وصلت إلى “الثنائي الشيعي”… “يسوّق الأميركيون لدى الكتل النيابية اسم السفير سلام، أبلغوا حزب “القوات” بالأمر، والرئيس فؤاد السنيورة، ولم يكن الحريري بعيداً عن هذا الجو”.
لم يتكلل الاجتماع بين بري والحريري بالنجاح، والمواقف بين تياري “المستقبل” و”الوطني الحر” متباعدة، رئيس الجمهورية ميشال عون يرفض ترشيح الحريري والأخير يرفض وجود رئيس “الوطني الحر” جبران باسيل في الحكومة. وسط هذا الجو دخل مشروع نواف سلام المستبعد كلياً من قبل “حزب الله”. ومع اعتذار الحريري كان أغلب الظن أن كتلة “المستقبل” ستحجم عن التسمية فيمر تكليف سلام من أسهل الأبواب ولو بعدد أصوات ضئيل.
وتسمية سلام يعني مشروع صدام جديد، خصوصاً أن رئيس الجمهورية قد يحجم عن التصديق على حكومة يرأسها سلام، وقوى الثامن من آذار لن تسمح بتمرير مرشح من باب كونه غير مستفز للشارع وفرضه على الثنائي تحت طائلة تعطيل البلد.
وفي وقت استمر التداول بإسمي وزيرة الداخلية ريا الحسن والوزير السابق خالد قباني إذا ما تمت تسمية أحدهما من قبل الحريري، كان الترشيح شبه الرسمي محصوراً بين اسمي فؤاد مخزومي ونواف سلام. لا يعد نواف سلام شخصية مقبولة من قبل “الثنائي الشيعي” لتقرّبه من الأميركيين، ولديه من مواقف سابقة في مجلس الأمن والمحافل الدولية ما لا يحمّس على تبني ترشيحه بالنسبة اليهما.
أما فؤاد مخزومي فكان المرشح الأول لـ”الوطني الحر” منذ لحظة استقالة الحريري، ومن بين الشخصيات الأولى التي زارت بعبدا. والذي أطل من دار الفتوى بكلام لافت مفاده “ان دار الفتوى هي مرجعية دينية وطنية وبيت حاضن للبنانيين عموماً ولأبناء الطائفة السنّية خصوصاً. وان ابواب الدار مفتوحة لأي شخصية يتم تكليفها”، كاسراً بذلك الحصرية التي كانت أعطتها دار الفتوى للحريري. للمخزومي حظوظه أيضاً. بالمقارنة يُعد وضعه مشابهاً لوضعية ترشيح الرئيس نجيب ميقاتي لرئاسة الحكومة، كان فاز في الانتخابات مع أحمد كرامي.
وفي وقت اختلفت فيه التيارات السياسية وتباعدت في خياراتها، كان “الوطني الحر” يرى أن الحريري إنما أدخل نفسه والآخرين في مأزق، وجرّ البلد إليه، يوم استقال من الحكومة، ويوم لجأ طالباً حماية دار الفتوى، ويوم رفض اقتراح باسيل بحكومة اختصاصيين مدعومة بسياسيين. “ليست هي محاكمة ولا جردة حساب” من التيار الذي يرى أنّ “الباب الوحيد للحريري كي يبقى ويستمر أن يذهب في هذا الاتجاه”، وبعد اعتذاره بات أمام الحريري أن يذهب باتجاه تسمية البديل وعدم حشر الجميع مجدداً كما سبق وحشرهم.
الأمور إذاً مرهونة بما سيصدر عن “كتلة المستقبل” اليوم، فإذا امتنع الحريري عن التسمية فتلك مصيبة، وإذا تبنى ترشيح السفير سلام فالمصيبة أكبر، لأنّ الأخير لن يحظى بغطاء الأصوات الشيعية، فيكون أمام الكتل أن تختار مرشحها ودفع الأوضاع إلى مزيد من التأزم بوجود حكومة لا تحظى بغطاء السنّة… السؤال هنا هل ستكون لدى الحريري خطوة إنقاذية للبلد بتسمية محايد أم نكون أمام تأجيل ثانٍ وثالث للاستشارات ونذهب باتجاه المواجهة الكبرى؟