ما من شك أنّ “حزب الله” مضغوط، ويعاني وجعاً حقيقياً من الضربات الأمنيّة المتتالية التي تلقّاها في “العدوان الثلاثي” الذي تعرّض له بتفجير أجهزة “البيجر”، ثمّ بتفجير أجهزة اللاسلكي، ثم باغتيال عدد من كبار قادته العسكريين. لكن هل يعني ذلك أنّه مهزوم؟
بعض القراءات، عجّلت في تبّني فرضية الهزيمة للحزب، وبدأت ترسم سيناريوهات لمرحلة ما بعد الهزيمة، ولواقع جديد متحرّر ممّا تسمّيها سطوة “حزب الله” وسلاحه وإمساكه بمفاصل وقرار الدولة؟!
قد تجد هذه القراءات جمهوراً يتحمّس لها ويسلّم بها، لكن قد تجد أيضاً من يكيل لها الإتهامات بأنّها حاقدة على الحزب، أو مكابِرة، أو شامتة بما أصابه، وشماتتها معطوفة على اعتقاد راسخ لديها بأنّ “حزب الله” انكشف وكان هدفاً سهلاً لمجموعة عمليات أمنية في فترة زمنية متقاربة، وأنّ القوة التي يمتلكها ليست أكثر من قوة وهمية ودعائية، أو موجَّهة ضدّه، ومبرمجة للتهويل عليه وعلى بيئته، أو قاصرة وسطحيّة تنمّ عن خواء ذهني وشحّ في الفرز التحليلي، أنوف أصحابها أطول من مدى رؤيتهم للأمور. وقد تُتهم أيضاً بأنّها غير واقعية، لم يستفق أصحابها بعد من صدمة “العدوان الثلاثي”، وما زالوا “مطووشين” من القوة الناريّة الهائلة التي استخدمتها إسرائيل في عدوانها الجوّي والصاروخي والمدفعي العشوائي على المدنيّين في الجنوب والبقاع.
تناقضها في المقابل، قراءات حماسية منتصرة لـ”حزب الله” ومتعصّبة له، ترسم سيناريو وحيداً لما تسمّيه النصر الحتمي المؤزّر، وترى في الحزب قوّة لم يُظهّرها بعد، وتترقّب منه ردّاً على “العدوان الثلاثي” والعدوان الجوّي الذي تلاه، بما لا يساويهما فحسب، بل بما يفوقهما حجماً وإيلاماً. ومتأثرة حتى النخاع بقول السيد حسن نصرالله للإسرائيليّين: “بيننا وبينكم الميدان”، إلى حدّ أنّ عيون أصحابها مسلّطة على الميدان تترقّب كيف ستُخرِج الجبال ما في بطونها، والوديان ما في جوفها، والسهول ما في أعماقها… وتقطع وعداً بأنّ غداً لناظره قريب، حيث أنّ الردّ، كما قال السيد “هو ما سترون وليس ما تسمعون”.. وهذه القراءات بدورها، بالتأكيد لها جمهور يتبنّاها بحرفيتها كما هي، ويرفض تصديق غيرها، وفي المقابل قد تجد من يتهمها بالمبالغة والمغالاة والثقة الزائدة بالنفس.
بمعزل عن أيّ من هذه القراءات هي الأقرب إلى الواقع، فإنّ “العدوان الثلاثي”؛ “البيجر” واللاسلكي واغتيال القادة، حقّقت فيه اسرائيل إنجازاً أمنياً كبيراً ومؤلماً جداً للحزب، الذي لم يُخفِ هذا الجرح، بل أكّده، وهذا له ما سمّاه “عقابه وحسابه من حيث يحتسب العدو ولا يحتسب”. وأمّا عدوان القتل الجماعي في الجنوب والبقاع، فحكايته مختلفة، وفصوله لم تنتهِ بعد.
الملاحظ في هذا المشهد أنّ “حزب الله” لم يكثر الكلام، فلقد فرّغ كلّ حواسه القتالية لمواجهة الهجوم الإسرائيلي. صحيح أنّ إسرائيل حققت تفوّقاً واضحاً وأكيداً في استهداف المدنيّين، وأرفقت ذلك بدعاية إعلامية وعسكرية تحاكي فيها نصراً مسبقاً على الحزب، وإخضاعاً له لحل يُضعف قدراته، ويكسر إسناده لغزة، ويحقق لها هدف إبعاد الحزب إلى ما بعد نهر الليطاني. ولكن هل تحقق ذلك فعلاً، بل هل يمكن أن يتحقق؟
ما بدا جلياً حتى الآن، هو أنّ إسرائيل استخدمت في هجومها الجوي العشوائي، الأسلوب ذاته التي استخدمته في غزة منذ بداية الحرب قبل سنة من الآن، أي أسلوب الصدمة والترويع بأكبر قدر من الغارات الجويّة في أوسع بقعة جغرافية لنثر الموت في كلّ مكان. والهدف الأساس الذي وضعته إسرائيل لهذا الهجوم هو أن تفرض قواعد اشتباك جديدة ترسّخ من خلالها أنّ لها اليد العليا والطّولى القادرة على فرض الحلول وإخضاع “حزب الله” لشكل الحل الذي تريده. والمستوى السياسي في إسرائيل صرّح علناً إنّه يتبنّى الحل الأميركي الذي جرى تسويقه عبر آموس هوكستين وجوهره إبعاد “حزب الله” إلى ما بعد الليطاني وإتاحة عودة سكان المستوطنات اليها.
إلّا أنّ اسرائيل، من خلال استهدافات هذا الهجوم، أثبتت، بما لا يقبل أدنى شك، أنّ ما تقول إنّه “بنك أهداف” تملكه عن “حزب الله”، ليس سوى بنك أهداف غالبيتها مدنيّة وأحياء وشقق سكنية. ولم تمسّ بنية “حزب الله” بالشكل التدميري الذي تريده، خلافاً للإنجازات التي تدّعيها، كمثل ما ذهب إليه المستوى السياسي في إسرائيل بالقول إنّ الهجوم الجوي تمكّن من القضاء على 50% من قدرات الحزب من الصواريخ الدقيقة، حيث سرعان ما أبرز الإعلام العبري إنكار الجيش الإسرائيلي لهذا الإدعاء، ونقل عن ضابط إسرائيلي كبير قوله ما حرفيته: “على الرغم من القصف للبنان، إلّا أنّ الجيش (الإسرائيلي) غير قادر على هزيمة “حزب الله”، وحتّى أنّه ليس قريباً من تدمير قدراته”.
السؤال الذي يطرح نفسه في هذا الواقع: إلى أين ستتّجه الأمور؟
التقدير الأقرب إلى الواقع في هذا المشهد، هو أنّ المواجهات مفتوحة وبلا أفق. ومستمرة حتّى بلوغ حلّ سياسي. ولكنّ أيّ حلّ؟
يقول أحد الديبلوماسيّين: “إنّ الحلّ الذي ترغب به إسرائيل، هو وقف جبهة إسناد غزة التي يقودها “حزب الله”، وإبعاده بالتالي عن الحدود لتوفير طمأنة سكان مستوطنات الشمال. إلّا أنّ هذا الحل، لا يمكن أن يتحقق إلّا بهزيمة “حزب الله”، وهذا الأمر ليس ممكناً لا بل مستحيل، والعالم كله يحذّر من قدراته، لا نقول نحن ذلك فقط، بل إنّ الإسرائيليّين يقولون إنّ هزيمة الحزب صعبة. يُضاف إلى ذلك، أنّ الوقائع الحربية سواء الحالية أو تلك التي توالت على مدار عام من المواجهات، أكّدت أنّ ذهاب إسرائيل إلى حرب واسعة للحسم، بالاعتماد على ما لديها من بعض الاختراقات الاستخبارية، والضربات التي راهنت على أنّها يمكن أن تغيّر في مسار الحرب لمصلحتها، هو تقدير غبي ورهان فارغ. وصولاً إلى الهجوم الأخير الذي أطلقته إسرائيل تحت عنوان إعادة سكان الشمال من المستوطنات المهجّرة، فسرعان ما ظهرت نتائجه العكسية بانضمام سكان مستوطنات أخرى اليهم بعيدة من الحدود، على خط التهجير.
لذلك، يضيف الديبلوماسي عينه، فإنّ الأمر المرجح حالياً، هو أن نشهد تصاعداً في العمليات الحربية، إنّما ليس لوقت طويل، حيث أنّ كل الأطراف مأزومة ومضبوطة على كلمة سرّ واحدة: “لا أحد يستطيع أن يتحمّل الحرب الطويلة”. ومن هنا فإنّ التقدير الواقعي هو أنّ المواجهات الحالية ستدور في الحلقة ذاتها ولن تؤدّي إلى خلق موازين جديدة، بل إنّها ستفتح مساراً عكسياً نحو الحل، عبر مبادرة الدول، ولاسيما الولايات المتحدة الأميركية، إلى تسريع الخطوات لإنهاء الحرب في غزة، وبلوغ اتفاق على صفقة تبادل بين إسرائيل وحركة “حماس”، تنسحب مفاعيله على جبهة لبنان، بفتح الباب لصياغة حل سياسي.