Site icon IMLebanon

هل يدخل لبنان النفق؟

 

قدّم قائد القوات الجوية في الحرس الثوري الإيراني علي حاجي زادة، في مقابلة مع قناة المنار، دليلاً إضافياً على عدميّة  السلطة والطبقة السياسية في لبنان. السلطة التي حرمتها جائحة كورونا من إطلالاتها الفولكلورية العديمة الجدوى، والتي طالما أُهينت في عقر دارها عندما اجتاحتها زيارات وتصريحات مسؤولين في الحرس الثوري دون أي إعتبار لها. أطلّ عليها حاجي زادة ليعطي قواته المنتشرة في لبنان وسوريا وغزة المهمة الموكلة إليها في خط المواجهة الأمامي.

 

المسؤول في الحرس الثوري أكّد أنّ لبنان وغزة يمتلكان تكنولوجيا صناعة الصواريخ ، مثبتاً بما لا يقبل الشك الإتهامات التي ساقها رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو، وقافزاً فوق كلّ التصريحات التي صدرت عن الأمين العام لحزب الله وحليفه وزير الخارجية الأسبق جبران باسيل والتي نفت وجود أيّ منشأة لها علاقة بتصنيع الصواريخ في لبنان.

 

إعلان زادة تقاطع النيران في سماء إسرائيل من كلّ من سوريا ولبنان وفلسطين، وتلقّي الأمر من المرشد بتسويّة حيفا وتل أبيب بالأرض في حال أرتُكبت أيّ حماقة بحق إيران ليس جديداً، بل يقع في سياق التعويم الإعلامي واستنفار الشعبويات التي تتبادلها قيادة الحرس الثوري مع القيادة الإسرائيلية، والتي تخضع لشروط اللاعب الأكبر في الولايات المتّحدة  والقادر على توجيه مسار هذا الإستنفار واستثمار نتائجه، وإلزام تل أبيب وطهران بها كما حصل في تموز 2006.

 

لقد تلقفت طهران منذ العام 2003 إستراتيجية الفوضى الخلاقة التي اعتمدتها واشنطن ولا زالت في الشرق الأوسط، بل يمكن القول أنّ طهران وضعت أذرعها وميليشيلتها في خدمة الفوضى المنشودة. قدّمت طهران أفضل نماذجها في ساحات الربيع العربي حيث حوّلت ثورة الشعوب على حكامها إلى اقتتال مذهبي وعرقي، وأفشلت مشروع الدولة الديمقراطية لا سيما في المشرق العربي، في حين كانت تركيا شريكة في تعميم الفوضى الأميركية في سوريا ورائدتها في المغرب العربي.

 

إنّ تجربة تعميم الفوضى الأميركية في المشرق العربي بنجاحاتها وإخفاقاتها منذ دخول العراق في العام 2003 وحلّ الجيش العراقي وحتى الآن، مروراً بالتجارب التونسية والمصرية والسورية واليمنية، قد أفضت الى تثبيت مجموعة من الحقائق الجيوسياسية في العالم العربي:

 

أولاً، فشل المشروع الإسلامي في مصر الذي قادته الولايات المتّحدة وتركيا، وتثبيت دور الجيش في تأمين انتقال السلطة ومكافحة الإرهاب والدفاع عن المصالح الحيويّة للدولة والتهديد باستخدام القوة العسكرية بدل القوة الناعمة (ليبيا نموذجاً).

 

ثانياً، إستعادة الدبلوماسية المصرية دورها في تأمين العمق الحيوي للدولة، لا سيما من خلال النجاح في ضبط المفوضات المتعلّقة بسدّ النهضة ولجم الهجمة الأثيوبية واحتضان السودان وإعادته الى كنف مصرـــ مع كلّ ما يعنيه ذلك من شراكة في أمن البحر الأحمر ونفوذ في القرن الأفريقي ـــ أو من خلال التفاهمات مع أوروبا لتأمين إستقرار الطاقة في شرق المتوسط. وبتعبير أوضح ملاقاة النفوذ التركي والنفوذ الإيراني بإجراءات فعالة حيث تتطلب المصلحة الوطنية ذلك.

 

ثالثاً، فشل المشروع الإسلامي في اختراق دول الخليج  واقتصار نجاحه المحدود على شمال اليمن، بعد الإنتقال من الدبلوماسية الى قيادة المعارك العسكرية منذ العام 2015 مع إنطلاق عاصفة الحزم، مما أدّى الى تثبيت الشرعية في جنوب اليمن وتأمين المحيط الهندي كممرّ لتدفقات النفط نحو شرق آسيا وأوروبا على السواء.

 

رابعاً، إسقاط مشروع الدولة في سوريا والعراق ولبنان وليبيا، وهو ما يشكّل نقطة تقاطع إيرانية أميركية، وأحياناً إيرانية أوروبية لا سيما في ليبيا ولبنان وسوريا، مع تسجيل فارق نوعي في العراق مع رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي الذي لا زال يتلمس فرص النجاح مع ارتفاع كبير في نسبة المخاطرة.

 

إنّ نجاح تجربتيّ دول الخليج العربي ومصر في تجاوز مشروع الأسلمة وتفكك الدولة الوطنية يحمل دلالتين أساسيتين، الأولى القدرة على تحديد المصلحة الوطنية ببعدها الاستراتيجي والثانية القدرة على اتّخاذ القرار الوطني وإنجاحه بكلّ القدرات المتاحة وبعيداً عن أيّ ثوابت أو إلتزامات مسبقة. إنّ إسقاط  هاتين التجربتين على لبنان وسوريا والعراق وليبيا يؤكد أنّ تفكك الدولة هو نتاج الفشل الكبير في تبلوّر مشروع وطني، وهو نتاج الرهان الدائم على المتغيّرات الإقليمية والدوليّة للإستدلال على الإصطفافات التي تضمن استمرار القوى السياسية في مواقعها ومكتسباتها. نجاح التجربتين في مصر ودول الخليج لن يوقف الصراع الدولي والشراهة الإقليمية على العالم العربي، ولكنه سيحول دون نجاحهما، فيما لن يؤدي الرهان اللبناني والسوري والعراقي على المتغيّرات الدولية لصياغة المصلحة الوطنية سوى إلى مزيد من الفشل. وبمعنى آخر إنّ المشروع الوطني هو الشرط الأساس لإقصاء وتطبيع المخططات الخارجية، وهو ما تحققه الإرادات الوطنية التي لا تنتظر الإملاءات الخارجية ولا تستجدي دعماً بالسلاح والمال للإلتحاق بركب همجيات مذهبية تفرض علينا سردياتها وأبطالها.

 

إنّ المؤسسات الدستورية والرسمية ودوائر اتّخاذ القرارفي لبنان لم تعد أكثر من أروقة ترتادها أو تقطنها سلطة محليّة (دون مستوى الدولة)، منتهية الصلاحية، بالرغم من كلّ المساحيق والجراحات التجميلية، سلطة تخلّت عن كلّ أوراقها للجمهورية الإسلامية وانطوت على نفسها بين ملفات الفساد والفشل.

 

إنّ المشروع الوطني متاح دائماً، وعليه فإنّ الثورة في لبنان مدعوّة لتحويل الدعوة اللفظية في استعادة الشرعيتين العربية والدولية الى إجراءات تحاكي مراكز القرار العربي والدولي. كما إنّ الرهان على بعض هذه السلطة للإلتحاق بمشروع وطني معارض يقتدي بالتجربة، ويؤمن أنّ الدولة ذات السيادة هي وحدها القادرة على تطويع الطموحات والنزوات الإقليمية التي لا تتوقف وليس العكس، لا يزال ممكناً. وبالمقابل فإنّ دول الإقليم وفي مقدّمتها مصر ودول الخليج مدعوّة لملاقاة من يحاكي تجربتها في لبنان من خارج البيئة السياسية المستنفدة القدرات، لأنّ الإمعان في الدفع باتّجاه بلورة سلطة موازيّة قادرة على تحقيق توازن ميداني في بيئة مستباحة إقليمياً إلى أبعد الحدود هو دعوة مفتوحة لدخول لبنان  في نفق قد يُفضي إلى المجهول.