حرب إستنزاف جديدة فرضتها المنظومة المتسلقة المتسلطة، بجناحيها السياسي والعسكريتاري، التي يديرها سلاح “حزب الله”، جعلت من اللبنانيين رعايا أو “أهل ذمة” في بلدهم، تمارس عليهم أفظع ضروب الإضطهاد والقمع، التي وصلت الى ذروتها مع ثورة 17 تشرين، التي تمكّنت بالحد الأدنى من دبّ الذعر والخوف في فرائص هذه المنظومة… فلجأت إلى “القبضة الحديد” مقابل “قبضة الثورة”، وكان ما كان!
فالاستنزاف الذي يعاني منه اللبنانيون، على مستوى الدولة ومؤسساتها وعلى المستوى الفردي، مرشح إلى مزيد من تصدّع الكيان وتداعيه، فيما المنظومة الحاكمة ثابتة على منطق المافيا وسلوكها. لكن الاستنزاف لا يقتصر على المواطنين فحسب، بل يطال هذه المنظومة التي فقدت الكثير من قوة جذب المناصرين عبر “الزبائنية”، سواء بالتوظيفات في القطاعين العام أو الخاص، ودائماً عبر الفساد والافساد في هذين القطاعين، اللذين كشفا حجماً للتخريب والنهب وصل من المال العام إلى أموال المودعين.
قوة “المنظومة” اليوم تتآكل، مهما بدا الأمر خلاف ذلك، فالتحركات في الشارع التي تراجعت، ليست مؤشراً بالضرورة على أن المنظومة قوية، الا اذا اعتُبر أن معيار القوة، هو بمقدار حجم القوة العسكرية لـ”حزب الله” وسطوتها التي توفر الحماية لها، بينما تدل الوقائع الاجتماعية والميدانية على أن اللبنانيين عبّروا بقوة، منذ انتفاضة 17 تشرين، عن ارادة تغيير للسلطة ومنطقها التخريبي لا لبس فيها، مع رفض مسؤول لكل انجرار نحو العنف المسلح. أما لماذا لم تتبلور هذه الارادة في مشروع سياسي جامع ومتكامل؟ فهذا يستدعي نقاشاً آخر، لكنه بالتأكيد، لا يعني أن المنظومة لا تتراجع وتضعف.
اللبنانيون عموماً في حال من التردّي المشهود، فيما أطراف المنظومة باتوا اكثر اقتناعاً بسلاح “حزب الله” كقوة حماية لا مناص منها لحفظ وجودها، وليس الدولة بطبيعة الحال. لأن متطلبات إنقاذ الدولة وشروطها الموضوعية الدُنيا، تتطلب تغييراً هو بالضرورة، يطال نظام مصالح “المنظومة” ويقوّض وجودها، لذا بات التناقض أكثر وضوحاً اليوم من ايّ وقت مضى، بين مصالح الدولة اللبنانية وبين هذه المنظومة.
في المقابل، يجهد “حزب الله” في سبيل حماية السلطة القائمة، وهو إلى ذلك بات أكثر انهماكاً بعملية كمّ الأفواه، بذريعة أن معركة لبنان اليوم مع “السفارات”، كما قال قبل يومين عضو المجلس التنفيذي في “حزب الله” نبيل قاووق، وهي بالتالي معركة إيرانية غايتها حفظ نفوذها ولو على ركام لبنان. وفي هذا الشعار الذي يحكم المعركة الانتخابية لـ”حزب الله” وتحالفاته في البيئة الشيعية، يرسخ الحزب في اذهان الشيعة اللبنانيين أن مواجهته وحلفاءه، تعني الانضواء في مؤامرة خارجية ضدّه، وبالتالي فإن “التلطي” خلف محاربة الفساد والتجويع، ومحاربة المفسدين من اتباعه وحلفائه، لا مكان له في البيئة الشيعية.
ويعزّز هذا المسار، دخول “حزب الله” بقوة على خطّ الحراك الاجتماعي في مناطق نفوذه، وبات يتمظهر اكثر كقوة تسلط وجهاز أمني، غايته كمّ الأفواه الجائعة والمعترضة على افقارها وتجويعها، ويعتمد اسلوب التغطية على معظم عمليات السلب، التي انتشرت بشكل مخيف في مناطق نفوذه، وحوّل العديد من مقاتليه نحو مهمة “حراسة المجتمع من نفسه”، بحيث بات الحديث الصامت عن “العسس” أمراً مطلوباً ومحبّذاً من مناصريه، ويشكل تنبيه الناس ثم تهديدهم، بما تبقّى من ارزاقهم، أمراً ضرورياً وواجباً.
القوة العسكرية “العارية” باتت السبيل إلى ضبط الحزب لبيئته، وتتجه نحو أن تكون القوّة الوحيدة لضبطها و”تهذيبها” من “شوائب” الثورة والاعتراض على ما يُرتكب ضدّها من نهب وسلب واستلاب.
التآكل والاستنزاف وفقدان الجاذبية، حال المنظومة اليوم، وهي تسير نحو مزيد من التردّي، إذ لم يعد لديها غير القوة الأمنية والعسكرية، وشبكة حزبية من المستفيدين، تعتقد أن في ذلك سبيل بقائها واستمرارها، وهو مؤشر صريح على نهايات، يدفع اللبنانيون اثماناً باهظة لوجودها، وكذلك لنهاية محتومة مكلفة تبقى أقل من كلفة بقائها، وأكثر من حاجة وضرورة للحفاظ على البقية الباقية من الوطن والكيان.