«إنّ أدنى مراتب الجحيم مرصودة لمَن يتخذون موقف الحياد في القضايا ذات الطابع الأخلاقي المبدئي» (دانتي). لستُ هنا في مجال الحديث عن أفضل أنظمة الحكم، فحتى أرسطو منذ 2300 عام، رأى أنه لا يوجد نظام حكم مثالي. كان قد قام مع تلامذته ببحث عن أنظمة حكم المدن اليونانية وتجاربها، من ديموقراطية إلى ديكتاتورية وما بَين بين، فاستنتج أنّ نظام الحكم الصالح هو الذي يؤمن الاستقرار والسعادة للناس، بغضّ النظر عن أسلوب الحكم. ومع أنني من الدّاعين الدائمين لنظام ليبرالي ديموقراطي، لكنّ الديموقراطية التي تستند فقط إلى التعددية القادرة عل التعطيل، ونظام الانتخابات الأشوه والبعيد كل البعد عن القواعد الديموقراطية الرشيدة، أصبح من نتيجته الواقع اللبناني الحالي، وبالتالي الدولة الفاشلة.
لكنّ الحديث هو اليوم عن قواعد نشوء الدول، بغضّ النظر عن أسلوب الحكم فيها. والدولة هي تلك المنظومة الاجتماعية التي تجعل من إمكانية العيش معًا في سلام وفي ظل تسويات مُجدية أمرًا ممكنًا. هي دولة العقد الاجتماعي التي تُخرِج البشر من حال الطبيعة المتفلّتة من كل قانون أو ناموس، حيث «الإنسان ذئب للإنسان» وحيث لكل «ما ملكت يمينه» من مكاسب وسبايا. لكن هذا الوضع، حيث لا قانون ولا رادع، يعني انشغال البشر الدائم في السهر المُضني على الأمن الذاتي خوفًا من قرار بشري آخر يسهر هو أيضًا على أمنه الذاتي، ويعتبر حكمًا أنّ وجود الآخر تهديد دائم لأمنه الذاتي. هنا، يقول الفيلسوف السياسي الأعظم في التاريخ «توماس هوبس» انّ الحاجة ذاتها للحفاظ على الأمن الذاتي، ولكن من دون الحاجة إلى التحفّز الدائم للمواجهة والقتال، جعلت من القيَم الاجتماعية والقوانين أمرًا ممكنًا وضروريًا في سبيل إنشاء المجتمعات الكبرى، أي الدول.
لكن القاعدة الأساسية لبناء الدول تتمحور حول قرار الأفراد والمجموعات الصغرى بتسليم حق استعمال العنف الشرعي لكيان محدّد ومُعترف به لدى كل قطعان الذئاب، أي البشر في حال الطبيعة. وبما أنّ الطبع غالب، فإنّ الذئب يظهر بسرعة تحت قناع الوداعة، بمجرد التشكيك بوحدانية الكيان الموكل بالحماية والأمن والردع الشرعي. بالنسبة الى توماس هوبس، فإنّ هذا الكيان سمّاه «لفياثن»، وهو عنوان كتابه الشهير المرجعي في علم الاجتماع والسياسة، وهو تعبير يرمز إلى وحش عبراني أسطوري لا قوة تفوق قوته، وقد تم استعمال كلمة «الطاغية» في اللغة العربية.
لماذا كل ما سبق من كلام؟ فقد سمعتُ وقرأت وشاهدت كثيراً من النواب الناجحين باسم التغيير، والتغيير هنا لا يعني فقط اسم النائب حتى وإن ادّعى التغيير، بل هو النهج المتغير كما قالوا. لكن هؤلاء التغيريين من أبناء الثورة يقولون ان ليس من المُجدي البحث في سلاح «حزب الله» في وقت يحتاج البلد إلى الإصلاح ووقَف الفساد وبناء الدولة. كما أنّ الحجة المضافة تقول انه لا يمكن أن نطلب من الحزب تسليم سلاحه طالما أنّ الجيش غير قادر على حماية البلد! وأنا هنا لا أبالغ، فقد تردّد هذا الكلام مرارًا على مدى السنوات الثلاث العجاف من عمرنا على لسان كثيرين من الثورجيين، وبعضهم كان ينظّر ضمن الجموع وعلى شاشات التلفزيون. لم يخطر ربما على بال المستجدين على الجدل في السياسة أنها الحجة المستمرة التي يستخدمها الحزب لتأبيد وجود السلاح. لكنني اليوم سأكون محامي الشيطان، أي أن أقول إن سلاح الحزب ضرورة بسبب ضعف الجيش، أو لعدم قدرته على المواجهة وذلك لاستخدامه الوسائل الحربية التقليدية التي تتفوق بها إسرائيل حتمًا، أما الحزب فهو يستعمل وسائل متنوعة بين حرب العصابات والحرب التقليدية. ولو كنّا موضوعيين لاستنتجنا أن التوازن الاستراتيجي العسكري التقليدي بين لبنان ودولة العدو مستحيل بكامله على المدى المنظور، أو ربما إلى ما بعد المنظور. فدولة العدو تسبق وتتنافس مع أقوى الدول في العالم، ولديها نعمتي الاقتصاد المزدهر والدعم الكافيين لتسبقنا بعقود عدة دائماً، وعلى مختلف المستويات. يكفي هنا ذكر ترسانتها النووية التي انطلقت منذ عام 1956 وما زالت قيد التطوير. هذا يعني في المحصّلة أنّ سلاح الحزب، الذي يفترض أنه الوسيلة الناجعة لتأمين التوازن، موجود كحاجة وطنية في المدى المنظور، لعدم إمكانية تأمين توازن بين الجيشين. لذلك، ومن دون غرضية، فإنّ طلب النواب الثوار المحق باستنهاض الدولة ووضعها على سكة التغيير اللازم، يستدعي أن يكون هناك دولة متّفق على نشوئها. وبما أنّ القاعدة الأساسية لنشوء الدول المستقرة هي وحدانية السلطة المسلحة، وبما أنّ سلاح الحزب هو الأنجح في المواجهة، فالمنطق يقول ان يتسلّم الحزب المسلح مقاليد السلطة بكاملها من دون مواربة أو تلطٍّ وراء نظام عاجز.
لكنني لست هنا في معرض الاستعراض الفارغ لمجرد إقحام حجج الآخرين، بل الهدف هو الخروج من التسطيح في طرح الشعارات والكلام غير المبني على فَهمٍ معمّق للقواعد السياسية. فقضية سلاح «حزب الله» تتخطى مسألة الجنوب والحدود، باعتراف قائد الحزب الذي صرّح أنه لا توجد حدود لأنّ المنطقة مفتوحة بعضها على بعض، وأن إيران تقود المنطقة بميليشياتها المذهبية المنتشرة بين لبنان وسوريا والعراق واليمن. لذلك لنبحث اليوم في طريقة بناء الدولة النظيفة المزدهرة. وهذا يعني على الأقل البحث في سبل إطلاق الاقتصاد على رغم من وجود سلاح الحزب الضروري.
لكن، من الواضح أنّ وجود هذا السلاح، منذ بضعة أيام، أعاد التسويات غير السوية لتفرض نفسها على المواقع التشريعية، ومن ضمنها اللجان النيابية. وبالتالي، فإن هذا السلاح الضروري لحماية البلد، أعادَ إدخال البلد إلى النقق المُظلم في موضوع الإصلاح. لكن، لنتجاوز ذلك الاتهام المُغرض للحظات وننتقل إلى طريقة إصلاح البلد. فهناك مثلًا الأملاك العامة والخاصة التي بُنيت عليها البيوت والجوامع والمستشفيات خارج القانون العام وضد السلامة العامة، فهل من الممكن تسوية هذه الأمور بفرض القانون واستعادة الحقوق؟ وكيف يمكن أن نحرّر القضاء للتحقيق مثلًا في قضية المرفأ على الأقل، أو في اغتيال العشرات من المواطنين والمسؤولين المعارضين لسلطة السلاح، حيث تحوم الشبهات المنطقية حول مسؤولية الحزب عنها؟
ومن بعدها، كيف سنُطلق عجلة الاقتصاد؟ فحتى وإن حَنّ علينا صندوق النقد الدولي، كَرمى لعيون النواب الثائرين الجدد، فمن سيأتي للاستثمار ومن أين ستأتي رؤوس الأموال، طالما أنّ كل الأموال الافتراضية في البلد قد تبخّرت؟ وهل سيتمكن الثوار من إقناع الحزب بإخضاع مداخيله للضريبة مثلًا، أو بضبط مستورداته وإخضاعها للقوانين الجمركية، فقط على سبيل الشفافية، وهي المدخل الأول نحو الإصلاح؟
هذا بالطبع غَيض من فيض، لنؤكد أنّ الثورة بمحاسنها ورومنسيتها، أتت بمنظّرين سورياليين ومُستجدّين في علم السياسة والاجتماع، لكن المؤكد أنهم إما جاهلون أو متجاهلون لدور الحزب وسلاحه في المعادلة، ومجرد محاولة تسطيح القضية والمرور إلى جانبها، أو حتى تسويغها يعني أنّ الأمور باقية كما كانت، وإنما بوجوه جديدة ثورية. فكما قلت في المقالة السابقة، «شدي اللحاف يا صفية»!