يقف «حزب الله» اليوم على مفترق طرق متداخلة، محلياً وإقليمياً، بعد إغتيال قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني وما يتركه من تداعيات متواصلة في المشهد الدولي والعربي. فالخيارات التي سيسلكها الحزب محفوفة بالمخاطر وبالرهانات غير المضمونة وبالتحديات المتنامية، وبالمتغيرات المتسارعة، فضلاً عن أنه يواجه في لبنان مأزق الإنسداد السياسي والإنهيار الإقتصادي، بينما يقف على رأس هرم السلطة والسيطرة على مفاصل القرار في لبنان عاجزاً عن تقديم أي حلّ.
إشكالية الثورة والحكومة
فاجأت ثورة 17 تشرين الأول 2019 «حزب الله» بشكلٍ خاص، وهو الذي كان يحاول القيام بحركةٍ موضعية ضد حاكم مصرف لبنان ليلة إندلاع الثورة، في إطار صراعه حول العقوبات الأميركية ومحاولة دفعها، لتخرج الأمور من يديه وتصبح كرة لهب متنامية، تفرض إيقاعها على الحياة السياسية وتجبر حكومة الرئيس سعد الحريري على الإستقالة، وتضع خطوطاً ومسالك إلزامية للقوى السياسية بحتمية إستيلاد حكومة كفاءات مستقلة، تضع برنامج إنقاذٍ إقتصادي، وتنأى بلبنان عن الصراعات الخارجية لتمكينه من التعافي وإستعادة التوازن المالي والإقتصادي.
كان موقف الرئيس ميشال عون وتياره منذ البداية مناهضاً لحكومة الكفاءات المستقلة، وجاهر بضرورة أن تكون حكومةً تكنوسياسية، وعلى هذا العنوان، خيضت نقاشاتٌ طويلة، أسفرت عن خروج الرئيس الحريري، وتسهم الآن في إحراج الرئيس المكلف حسان دياب.
ولم يكن موقف «حزب الله» ومعه الرئيس نبيه بري، بعيداً عن رأي الرئيس عون، بل إن الثنائي الشيعي لم يهضم أي تغيير في تركيبة الحكم منذ البداية، وقد عبّر أمين عام الحزب حسن نصرالله عن ذلك عندما رفض إستقالة حكومة الحريري وبقي يقاوم فكرة الحكومة المستقلة، ولا يزال التوجه عند هذا الثنائي محاولة إعادة الرئيس الحريري إلى الرئاسة الثالثة، بينما يحتفظ الوزير باسيل بموقع «الحليف المدلّل» الذي يريد اليوم ثلثاً معطلاً مع وزارة الطاقة، ومرحلة إنتقالية تضمن أن يخلف عمه في قصر بعبدا.
السلطة وإنقلاباتها
ماشت قوى السلطة الثورة ووزعت الأدوار بينها، وجاءت بالدكتور حسان دياب رئيساً مكلفاً، وأغرقته في تفاصيل التقسيمات والحصص، وناورت حول شكل الحكومة وموقع الطوائف فيها، وإندفعت كتلة المستقبل الخارجة من «نعيم السلطة» لتوجيه ملاحظات حول دور النائب جميل السيد في صناعة الحكومة، وكأن حكومة الرئيس الحريري كانت أفضل حالاً مع الكتلة التي «صفـّح» بها الوزير جبران نفسه والأغلبية الكاملة لقوى الممانعة فيها.
إستهلكت أحزاب السلطة الوقت، في لعبة مكشوفة، لأن من سمّى الدكتور دياب هم حلفٌ واحد، ويفترض أنهم في مركبٍ واحد
مأزق فائض القوة
يكشف المأزق الحكومي حقيقة مأزق «حزب الله» وحلفائه، فلا هم قادرون على تشكيل حكومة لونٍ واحد، رغم إمتلاكهم الأغلبية النيابية، ولا هم قادرون على تشكيل حكومة كفاءات مستقلة، تتمكن من تلمّس طريق النجاة من الكوارث الآتية، وكانت ترجمة هذا الإرباك التردّد في تقديم أسماء وزراء الثنائي الشيعي لدياب، وتعليق الحسم في الموقف، بإنتظار الأفق الإقليمي.
أمام مأزق الثورة والإقليم، ما هي المخارج المتاحة أمام «حزب الله» لدفن الثورة وتحسين الأوراق في المحيط؟
يتراوح الخيار بين الفوضى المنفلتة في الداخل، والحرب مع العدو الإسرائيلي في الخارج.
خيارات الحدود القصوى
خيار الفوضى:
يمتلك «حزب الله» أوراقاً كثيرة في الساحات تمكنه من إحداث مزيدٍ من الفوضى التي شهدنا نماذج مصغّرة عنها في شوارع بيروت، وفي ساحات صيدا وصور وبعلبك وفي ساحة النور.. بل إنه يستطيع دفع المزيد من عناصر التخريب الكامنة من الشمال إلى الجنوب، وأن يُراكِم على توجيهها وتحويلها إلى تصدعاتٍ إجتماعية وأمنية واسعة النطاق، بينما يعتقد قادتـُه أنهم محصّنون في مناطق نفوذهم، وهو ما عبـّر عنه حرفيا رئيس كتلة «الوفاء للمقاومة» محمد رعد عندما قال بوضوح إن الحزب هو الأقدر على تحمّل تداعيات الفوضى إذا وقعت في البلد.
لا يسهل تصوّر سيناريو الفوضى ولكن المضيّ به، بالتوازي مع مسارٍ كارثيّ آخر، هو الإنهيار المالي المخشيّ من وقوعه، سيؤدي إلى خسائر تطال الجميع، بمن فيهم «حزب الله»، إلا إذا كان الحزب قد قرّر التخلي عن رداء الدولة، والخروج إلى قارعة الطريق الإقليمية، حاملاً صواريخه، وسط حرائق تتصاعد في الأرجاء اللبنانية.
مع كل هذا السوء المتوقع، لا يمتلك «حزب الله» ضمانة بأن لا تتشكل حالة، أو حالات مقاومة، ضده، تتجمع حول الدولة، وتطلق مقاومة سياسية وميدانية، لا يشكل فيها الصاروخ عامل توازن وحسم.
خيار الحرب
الخيار الآخر للهروب إلى الأمام، هو فتح المواجهة مع العدو الإسرائيلي.
هذه المواجهة، لم تعد بعيدة أساساً مع إبتلاع «حزب الله» لضوابط القرار 1701 وإعادة نشر قواته ضمن نطاق تطبيق هذا القرار، وما تسريبُه للظهور المسلح خلال جولات قيادات الميليشيات الإيرانية على الحدود مع فلسطين المحتلة، إلاّ شكلٌ من أشكال التجاوز المتدرّج لمفاعيل القرار.. فضلاً عن رسم الحدود لقوات اليونيفيل في تحركاتها، من خلال سدّ الطرقات بالأهالي عبر خريطة واسعة تضع الفواصل والمسافات بدون إعلان.
لا شكّ بأن «حزب الله» طوّر قدراته الصاروخية طيلة السنوات التي تلت حرب العام 2006، كما أنه إكتسب المزيد من الخبرات القتالية في تورطه بالعدوان على الشعب السوري، ومن مشاركاته في حروب العراق واليمن.. لكن الأكيد أيضاً أن العدوّ الصهيوني يدرك أبعاد هذا التطوّر ويواكب خطواته في إطار الصراع الإقليمي والدولي المندلع في المنطقة.
لهذا تصبح المواجهة أكثر صعوبة وأشدّ خطراً في إستجلاب التدمير، أكثر من أي مرحلة سابقة. وما يزيد منسوب هذه المخاطر، ليس الصراع بمعناه التقليدي، بل بما يمكن أن يحمله من متغيّرات.
فهل هناك ضمانة بأن يتمكن «حزب الله» من حسم الحرب في حال توسعت دائرة الصراع الدولي وحظي الصهاينة بأسقفٍ عالية للإستمرار في المواجهة؟
وهل هناك ضمانة تحول دون تطوير المواجهة إلى مشروع صهيوني توسعيّ يهدف إلى الإستيلاء على أجزاء من ثروتنا من النفط والغاز، والتي يبدو أنها أكبر مما يجري الحديث عنه، وستكون محطّ طمع الصهاينة الذين سيرون فيها ما يستحق التضحية والعناء، في حال تمكنوا من تغيير المعادلات؟
هل هناك ما يؤكد إدراك «حزب الله» لحجم المخاطر التي يمكن أن تنجم عن فتح المواجهة، بينما يتمتع لبنان اليوم بإستقرارٍ وحصانة بسبب المعادلة التي أرساها القرار 1701، وهي المعادلة التي أعادت أهل الجنوب إلى أراضيهم، وسمحت بإعمارها وإستصلاحها وإنشاء المرافق السياحية وتفعيل عملية الإنماء فيها؟
مخاطر عودة الإحتلال
ما يدفع إلى هذه التساؤلات وجود توقعات لدى جهات دبلوماسية، ومخاوف لدى أوساط عربية ودولية، من أن يشكل فتح الجبهة جنوباً، مدخلاً لتغيير المعادلة وإعادة الإحتلال الإسرائيلي إلى قلب الساحة من خلال إحتلاله بعضاً من أرضنا وبحرنا طمعاً بثرواتنا المستجدة، وهو المسيطر أساساً في الجوّ.
ليس في هذا الطرح تهويل ولا تخويف، ولكنه محاولة لتقديم الرؤية من زاوية مختلفة في زمن الإحتقان والرؤية الآحادية والإنفعال بفائض القوة، لعل قيادة «حزب الله» تستفيد من وسائل إيران في إدارة الصراع، في المناورة وتجنـّب الخسائر، ولا تحصر دورها في أن تكون، ويكون بلدها وقوداً في حروب الآخرين.
خيارات «حزب الله» اليوم أحلاها مرّ، أفضلها القبول بإجماع اللبنانيين على مسار الخروج من الأزمة، بالإفراج عن حكومة كفاءات لا تلوّثها أيادي الساسة، وتلاقي الثورة في رفض الفساد والنأي بالنفس في العلاقات الخارجية، وتفتح ثغرة مع المجتمع العربي والدوليّ ليمدّ اليد إلينا، مالياً وإقتصادياً.. مع ما يعنيه ذلك من تنازل حول أفضلية سلاحه وموقعه، وصولاً إلى التفاهم حول مستقبل هذا السلاح.
وأسوأ الخيارات الفوضى الهدامة، أو إشعال فتيل الحرب مع العدو، في مواجهة ليس للبنان فيها لا عيرٌ ولا نفير..