هناك من أعتقد أن «حزب الله» قد أُصيب وتضعضع، أو انهزم وانكسر، وبالتالي، يأمل في أن ينخرط الحزب في الحياة السياسية اللبنانية على شاكلة الأحزاب والتيارات السياسية الأخرى، وأن يبدأ باكورة التغيير في نهجه وأسلوب عمله ببادرة تسليم سلاحه بالكامل إلى الجيش.
ليس واضحاً ما أعلنه الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم في تشرين الثاني المنصرم، ولم يكن حبر اتفاق وقف الأعمال العدائية قد جفّ، عن أن خطوات الحزب السياسيّة وشؤون الدولة ستكون «تحت سقف الطائف»، وعن «مساهمة فعّالة» لانتخاب رئيس للجمهورية، مع إشارة واضحة إلى ثلاثية «الجيش والشعب والمقاومة»، التي عدّها «الرصيد المتبقّي الذي نستطيع من خلاله أن نبني وطننا». وهذه الإشارة إلى الثلاثية، هي العبارة التي وردت في البيان الوزاري للحكومات اللبنانية المتعاقبة، وفيها تشريع مُبطّن لعمل الحزب العسكري.
وفي كلمته مؤخراُ، والتي يُفترض أن تكون خارطة طريق لتوجهات الحزب المُستقبلية، أعلن الشيخ نعيم قاسم «إن العدوان على لبنان ليس له علاقة بإسناد غزة بل بالمشروع التوسّعي الإسرائيلي. ونحن منعناه من تحقيق الشرق الأوسط الجديد عبر بوابة لبنان. ولولا صمود المقاومين لوصلت إسرائيل إلى بيروت وبدأت خطواتها اللاحقة من استيطان وتوطين».
كما قال أن «المقاومة انتصرت لأن العدو لم يتمكن من تحقيق هدفه المركزي وهو القضاء على حزب الله». واعتبر أن «كل اللبنانيين الذين ساندوا واعترضوا على العدوان هم شركاء في عملية النصر».
وأضاف «العدو أدركَ أن الأفق في مواجهة مقاومة حزب الله مسدود فذهب إلى اتفاق إيقاف العدوان. والاتفاق هو لإيقاف العدوان وليس لوقف المقاومة، وهو محصور في جنوب الليطاني. ولا علاقة للاتفاق بعلاقة المقاومة بالدولة والجيش ووجود السلاح».
ثمّ قال «إن حزب الله خسر في المرحلة الحالية طريق الإمداد القادم عبر سوريا»، لكنّه وصف ذلك بأنه «تفصيل صغير قد يتبدّل مع الزمن».
وأعلن أنه «من ضمن برنامج عمل حزب الله في المرحلة القادمة إعادة الإعمار بمساعدة الدولة المسؤولة عن الإعمار».
وأخيراً، وطمأن أن «حزب الله قوي ويتعافى ومستمر، والمقاومة مستمرة، وهيهات أن نستسلم وهيهات أن نكون أذلّة».
نستخلص من التمعّن في مضمون الكلمتين: (1) أن الحزب يرى نفسه منتصراً، وأنه أحبط مُخطط الشرق الأوسط الجديد، وأنقذ لبنان والعاصمة بيروت، وأرغم العدو إلى السعي لطلب اتفاق وقف الأعمال العدائية. و(2) أن الاتفاق لا علاقة له بوجود السلاح، والحزب سيجد طرقاً أخرى للحصول على الإمدادات. و(3) الاتفاق يتناول تسليم السلاح جنوب نهر الليطاني ولا يتناول شماله. و(4) المقاومة ستستمر، وثلاثية «الجيش والشعب والمقاومة» هي «الرصيد المتبقّي» لبناء الوطن. و(5) أن الدولة مسؤولة عن الإعمار (علماً ان الدولة لم تتخذ قرار الحرب).
من هنا نفهم أنه لا نيّة لأي تغيير جدّي أساسي في ثوابت الحزب أو أهدافه.
لذلك، فإن من يعتقد أن «الدويلة» ستسقط، وأن نشاط «حزب الله» سيقتصر على العمل السياسي والديني والخدماتي على الساحة اللبنانية، هو واهم ومُلتبس، فـ«حزب الله» ليس حزب لبناني المنشأ والفكر وساحة العمل، ولم يحصل على علم وخبر من وزارة الداخلية، بل هو تنظيم عسكري مذهبي لديه عقيدة وقضية، موجود في لبنان وفيه لبنانيون لكن قيادته معقودة للمرشد الأعلى للثورة الإيرانية وتأتمر بأوامره، وتمويله ومصادره كافة من إيران، كما صرّح قادة الحزب بذلك علناً وجهاراً مراراً وتكراراً، كما أن الحزب ينطلق من لبنان وينشط عسكرياً خارجه في دول عديدة. وللأسف، فهو ليس الحزب الوحيد في لبنان الذي يأتمر بأوامر من خارج لبنان.
وقد مرَّت سنوات عديدة قبل أن يضع «حزب الله» العلم اللبناني بجانب علمه، ربما تزلّفاً لبعض الفئات اللبنانية، ومضت سنوات قبل أن ينخرط الحزب في العمل النيابي والوزاري، ربما لأن هذا يمنحه وجود في الدولة وصفة رسمية وحصانة.
وهو حزب مصنّف على أنه منظمة إرهابية في عدة دول أجنبية وعربية، ومؤخراُ أعلنت جامعة الدول العربية، ببيان مبهم، أنها لم تعد تصنّف «حزب الله» منظمة إرهابية.
فأي أمل ترتجونه، وأي تغيير تطلبونه منه، وهل بيده اتخاذ هكذا قرار؟
لقد تقلّصت ساحة «حزب الله» الخارجية وحركته، وفَقدَ خطوط إمداداته بعد أن فَقدَ وجوده وامتداده وقواعده في سوريا وبعد وقوع القطيعة مع بعض القوى في العراق. وأيضاً بسبب التوغل الإسرائيلي في الأراضي السورية والمراقبة الشديدة.
وقد يتقلّص حجم الحزب، وولاء جمهوره، وإمكاناته وتقديماته في الداخل، بعد الضربات المدمرة التي تعرّض لها (كان الثمن كبيراً ومؤلماً، بحسب تعبير الشيخ قاسم)، والتي أصابته في قيادته وعناصره وبُناه التحتية وتجهيزاته ومخزونه وأمواله.
لا شك بأن «حزب الله» سيقوم بمراجعة شاملة بدءاً من قرار «المشاغلة والإسناد»، مروراً بالخرق الأمني والانكشاف الاستخباراتي وما نجم عنه من اغتيالات للصف الأول من القادة وتفجيرات البيجر واللاسلكي، واستهداف البنى التحتية وقواعد الحزب ومراكزه، وسقوط ركيزته الكبرى المتمثلة بالنظام السوري، وطبعاً، استجلاء الموقف الإيراني.
وقد يعود الحزب إلى عباءة السريّة وغطاء التقيّة كما في بداياته، مع شعور عارم بالحقد والضغينة تجاه كل من تصدى له وخالفه الرأي والتوجه، وربما مع رغبة متأججة في الثأر والاقتصاص عبر الاغتيالات أو غيرها، وسيُمثّل الحزب حينها حالة خطرة على الوضع الداخلي، أكثر بكثير من وضعه الحالي الاستعلائي الاستكباري المُهيمن.
إذا كان من رجاء جدّي، فهو في تغيير جذري في نظام إيران واستراتجيتها، أو في عجزها أو تخلّيها عن تحريك أصابعها خارج حدودها!
ختاماً وتوضيحاً، فإن هذا المقال ليس موقفاً من الصراع العربي – الصهيوني، وليس تشكيكاً أو تراجعاً عن حقّ النضال لاسترجاع فلسطين السليبة وكلّ أرض عربية مسلوبة، ولكنه رأي في معرض التساؤلات الدائرة والتوقعات، عن توجهات «حزب الله» المُقبلة والمستقبلية.