Site icon IMLebanon

حزب الله والحملة الإعلاميّة ضدّه

تناقلت وسائل الإعلام اللبنانيّة خبراً أن حزب الله قرّر إقامة دعوى ضد إعلاميّة بسبب كلام قالته بحقّه في برنامج إعلاميّ. بالأحرى، فإن الإعلاميّة المذكورة هي التي زعمت على مواقع التواصل الاجتماعي أن حزب الله قرّر إقامة دعوة ضدّها. لكن الحزب عاد وأوضح أن الدعوى سبقت الحلقة وأنها تتعلّق بكلام قالته الإعلاميّة على «فايسبوك».

وهل أصبح الحزب، الذي أبدع في رصد العدوّ وإعلامه، يرصد ما يكتب الناس من آراء على «فايسبوك»؟ ولو أن الحزب سيقيم دعاوى ضد لبنانيّين ولبنانيّات من الذين يكتبون ضدّه اتهامات جائرة على «فايسبوك»، فإن كل سجون لبنان ومحاكمه لن تتسع لهم ولهنّ. كما أن الحزب الذي يقارع أعتى قوّة في الشرق الأوسط هو أفشل من الجماعة الإسلاميّة في العمل الإعلامي. يبدو أن الحزب أخطأ وتسرّع، وأن الإعلاميّة لم تكتب ما نُسب إليها، ولم يقدّم الحزب للرأي العام نسخة عمّا ينسبه إلى الإعلاميّة.

لكن قبل الخوض في الموضوع التفصيلي، يجب توضيح مسألة حريّة التعبير في البلاد الديموقراطيّة وهي ليست مطلقة بأي حال من الأحوال، وخصوصاً في الولايات المتحدة الأميركيّة التي ينحدر موقعها في القائمة التراتبيّة التي تنشرها سنويّاً منظمّة «مراسلون بلا حدود». من بديهيّات الحريّات السياسيّة الدنيا أن يتمتع المواطن (والمواطنة) بحق نقد المسؤول في السلطة من دون تحفّظ أو روادع أو عواقب. وهذا الأمر غير متوفّر في أي من الدول العربيّة. كان للولايات المتحدة قانون خاص في أواخر القرن الثامن عشر (سُنَّ في عام ١٧٩٨) ــ وكردّة فعل على الثورة الفرنسيّة ــ يمنع المواطن من انتقاد المسؤولين الحكوميّين، لكن القانون بَطل مفعوله في أوائل القرن التاسع عشر. أما في لبنان، وهو الأقلّ قمعاً بين الدول العربيّة، فإن ميشال سليمان استطاع أن يأمر باعتقال شاب لبناني لأنه سخر منه على «فايسبوك». ولحماية حريّة الصحافة في البلدان التي تنشد الديموقراطيّة، يُستثنى من قوانين منع الذم والتحقير والقدح كل المسؤولين الحكوميّين، أو حتى كل مَن هو أو هي في «العين العامّة»، أي مَن هم في فئة المشاهير. ولقد عانيتُ شخصيّاً من ذلك (ولا أعتبر نفسي أبداً من فئة المشاهير) عندما حاولتُ أن أقيم دعاوى على مَن أطلق ضدّي هنا اتهامات باطلة: لكن لم يقبل محام واحد هنا بالتوكيل عنّي لأنهم اعتبروا أنني «شخصيّة عامّة»، وهذا يسلبني حقّي في إقامة دعاوى ذمّ وتحقير. وعبثاً حاولت إقناع مَن قابلتهم من محامين وأصرّوا على أن الدعوى لن تتقدّم في المحاكم بسبب تصنيف المُدّعي كـ«شخصيّة عامّة».

الحملة التي تصيب حزب الله لا تصيب غيره من حيث التجنّي والظلم

في لبنان، ليس هناك من تمييز: قوانين منع القدح والذم (وهذه قوانين مُترجمة عن قوانين المُستعمِر الغربي) يسري على المسؤول وعلى المواطن. لكن المستفيدين منها هم المسؤولون، لا المواطنون العاديّون الذين لا يعيرهم القضاء اللبناني أي اعتبار. أي أن قانون القدح والذم يخدم فقط مصلحة وقضيّة المسؤولين الذين يجب أن يُستثنوا من حماية القانون لإعطاء الشعب حق التعرّض للحاكمين. الأسوأ من ذلك أن الحكّام لا يتورّعون عن استخدام القانون، وذلك كوسيلة قانونيّة للحد من حريّة التعبير متى طاولت واحداً من هؤلاء. وفي كل دولة عربيّة، هناك نموذج من قوانين لحماية الحكّام من النقد: من قانون «إطالة اللسان» في الأردن، إلى قانون «وهن الأمة» في سوريا، إلى قوانين تمنع التعرّض بكلمة أو همسة ضد الحاكم في كل دول الخليج. لا، ما كان على حزب الله أن يقيم دعوى ضد إعلاميّة أو إعلامي، مهما تدنّى مستوى هذا الإعلامي والإعلاميّة ــ والإعلام اللبناني يسجّل أرقاماً قياسيّة باستمرار في تدنّي المستويات والمعايير وفي التلوّن والتقلّب والانتهازيّة. لكن تدنّي مستويات الإعلام ليس من مسؤوليّة أحزاب سياسيّة لا يقدّم إعلامها قدوة في المهنيّة.

أما حزب الله فهو جديد في هذا «الكار». لم يسبق له أن قاضى صحافيّين أو إعلاميّين من قبل، أو لم نسمع بذلك من قبل، لكنه أوضح أنه بالفعل بادر قبل بضع سنوات إلى إقامة دعاوى ضدّ من يطلق ضدّه شائعات كاذبة. وهذا يخالف سياسة حزب الله الإعلاميّة التقليديّة، أو بالأحرى هو يخالف لا سياسة حزب الله الإعلاميّة. لا يمكن القول إن سياسة حزب الله الإعلاميّة ــ بصرف النظر عن السياسة ــ هي ضعيفة أو خاطئة، بل هي معدومة. هو يلجأ معظم الأحيان إلى الصمت المطبق، معتمداً بصورة حصريّة على إطلالات السيد حسن نصرالله الذي يجد نفسه مضطرّاً إلى الظهور والإجابة عن كل التساؤلات عن مواقف حزب الله في المواضيع المطروحة. وبيانات حزب الله الإعلاميّة نادرة وغير فعّالة لأن الإعلام إما أن يكون فوريّاً وسريعاً أو لا يكون. ونوّاب حزب الله ووزراؤه ممنوعون بأمر من قيادة الحزب من الظهور الإعلامي، أي أن الحزب قرّر أن يدع خصومه وأعداءه يحتكرون الساحة ويشوّهون مواقفه كما يريدون. وبهذا، هو يفقد حق الاعتراض على تشويه مواقفه. أي أن الحزب سمح لأعدائه بالتكلّم بالنيابة عنه من دون ردود أو جواب. وفي هذا لا يُلام خصوم حزب الله والمعركة على أشدّها. وإعلام حزب الله إعلام حربي فعّال، وغير فعّال في ما عدا ذلك. لكن هذه القضيّة تفضح القطاع الإعلامي برمّته.

لقد بات للإعلام اللبناني صوت مرتفع ليس فقط بسبب تعدّد الوسائل، وإنما بسبب قوّة الدعم المالي التي تهطل عليه من دول النفط والغاز (بما فيها إيران) مع طغيان واضح للمال السعودي والقطري في كل الوسائل الإعلاميّة العربيّة، وحتى في وسائل التواصل الاجتماعي. لقد جمّع موقع «هفنغتون بوست» القطري مثلاً عدداً هائلاً من المدوّنين والمدوّنات لا يختلف واحدهم عن الآخر في طاعة معايير إعلام النظام القطري. والنظام القطري فعّال أكثر من الإعلام السعودي في محاولة السيطرة على الأصوات الشبابيّة بشتّى الوسائل. لكن هناك مَن سيعترض أن إيران مثلها مثل آل سعود ومثل آل ثاني تموّل الإعلام في العالم العربي. هذا صحيح، لكن نسبة سيطرة الإعلام الإيراني (وهي يجب أن تنتفي مثاليّاً) لا تُقارن من حيث الكم والنوع مع إعلام النظام القطري والسعودي. لكنْ هناك عامل آخر: إن إيران لا تنافس في جذب الإعلاميّين والإعلاميّات بالمال والمرتبّات العليا كما هو ديدن إعلام النظام القطري والسعودي. هناك إعلاميّون وإعلاميّات في وسائل إعلام مُموّلة من النظام الإيراني، لكن مرتّباتهم لا تُقارن بمرتّبات الإعلام العربي المُنافس: لا نسمع أن فلاناً ترك وسيلة إعلاميّة سعوديّة بسبب عرض مالي سخي من وسيلة إعلاميّة إيرانيّة. لا تجد في وسائل إعلام النظام الإيراني مَن جُذِب بالمال، أي مَن تحوّل من مقارعة النظام الإيراني إلى الولاء له بسبب المال، كما هو سائد في إعلام النظام القطري والسعودي، حيث تجد مَن كان بالأمس يكيل المدائح لحزب الله وللنظام السوري إلى أن أقنعه مرتّب آخر بهول وفظاعة حزب الله والنظام السوري. ظاهرة شراء القناعات والضمائر ــ أو استئجارها ــ هي خاصّة بوسائل إقناع النظام القطري والسعودي (بطريقة عمل إعلام النظام الصدّامي والقذّافي نفسها في الماضي ــ وهناك مخضرمون عملوا مع إعلام النظامَين ثم تحوّلوا إلى إعلام النظام القطري والسعودي بعد نضوب الموارد).

يجب أن تقلع كل الأحزاب والشخصيّات السياسيّة عن مقاضاة كتّاب، لكن استفظاع قيام حزب الله بإقامة دعوى قضائيّة ضد إعلاميّة في محطة «إل بي سي» يشي بنفاق لا سابق له ــ أو يشي بنفاق نعهده يوميّاً من إعلام ١٤ آذار. وقام هؤلاء (وهم بأكثرهم من الإعلام الحريري والقطري والسعودي) بالتعبير بأشدّ عبارات التنديد والهجاء والاستنكار ضد حزب الله لمحاولته ــ حسب رأيهم ــ كمّ الأفواه. وهنا مكان العجب: أين كان كل هؤلاء عندما قام ــ ويقوم ــ شخصيّات من ١٤ آذار بإقامة دعاوى قضائيّة بالجملة، قبل الأكل وبعده، ضد كتّاب وإعلاميّين في ٨ آذار؟ لقد سجّلت القوّات اللبنانيّة المدعومة بالمال الخليجي رقماً قياسيّاً في شن حملات قضائيّة ضد كل وسائل الإعلام المُعارضة لها، لكن أحداً من هؤلاء لم يرفع الصوت ضدّها. أين هؤلاء من حرب السلطات المسيحيّة الكنسيّة ضد مجلّة «السمندل»؟ هؤلاء يثورون ضد رقابة الأمن العام إذا طاولت ما يزعج النظام الإيراني، ويصمتون إذا فرضت الرقابة ما يمنع ما يزعج النظام السعودي.

يجب الإصرار على حق

كل الإعلاميّين في التعرّض للأحزاب والشخصيّات

وفؤاد السنيورة وآل الحريري وسامي الجميّل أقاموا دعاوى ضد كتّاب من الفريق الآخر، ولم يحدث أن تضامن معهم أحدٌ من هؤلاء. هناك شلّة إعلاميّة من فريق ١٤ آذار (أي فريق الإعلام الحريري والسعودي) وفريق ١٤ آذار الخجول (أي فريق إعلام النظام القطري وهو ينشط في الحملة ضد حزب الله أكثر من الفريق الأوّل، ربّما لأن النظام القطري كان متحالفاً لحقبة مع حزب الله والنظامين الإيراني والسوري ويريد أن يكفّر عن ذنوبه) وهم لا يتضامنون إلا مع أنفسهم. هؤلاء تضامنوا مع «تشارلي» فقط لأن السفير السعودي تضامن معه، ولو تضامن السفير السعودي ضد تشارلي لكانوا تضامنوا ضدّه أيضاً وحملوا الشموع والبقدونس والطناجر النحاسيّة. لقد أقام وزير الإعلام والثقافة السابق، طارق متري ــ أي المكلف بحماية الإعلام والثقافة ــ دعوى ضدّي بناء على مقالة كتبتها، ولم يصدر عن أي من هؤلاء كلمة تضامن، مثلاً. لو أن أحداً من هؤلاء تضامن يوماً مع كاتب من خارج خندق ١٤ آذار لكان المرء قد صدّق مزاعمهم وحرصهم على الحريّات الإعلاميّة. لقد تضامن هؤلاء مع زاهي وهبي الذي اتهم (جوراً وزوراً) إميل لحّود بقتل رفيق الحريري. هؤلاء مع الدعاوى عندما تُوجّه ضد كتّاب وإعلاميّين من الفريق المُعادي لـ ١٤ آذار، وهم ضدّ الدعاوى عندما تُوجّه ضدّ كتّاب من ١٤ آذار. (طبعاً، يسري هذا على كتّاب ٨ آذار الذين هم أيضاً بصخب أقل ونفاق أضعف لا يتضامنون إلا مع أنفسهم، لكنه، خلافاً لفريق ١٤ آذار، لا يبرزون كأوصياء على الحريّات العالميّة).

لو أن لهؤلاء حساسيّة فائقة ضد قمع الحريّات الإعلاميّة لكانت ثارت ثائرتهم ضد آل سعود الذين يشكّلون أكبر تهديد ضد الحريّات الإعلاميّة في العالمَين العربي والإسلامي. أين كانت حساسيّة هؤلاء عندما هدّد السفير السعودي الحالي الوسائل الإعلاميّة في لبنان فقط لأن هناك جريدة واحدة لا تزال تجرؤ على انتقاد مملكة القهر؟ أين حساسيّة هؤلاء من تنصيب عوني الكعكي (حليفهم في ١٤ آذار) نقيباً على الصحافة في لبنان فقط لأن أمراً أتى من آل سعود وآل الحريري؟ لو أن هؤلاء يتحمسون فعلاً للحريّات الإعلاميّة لكانوا لاموا مرّة في السنة على الأقل رفيق الحريري على إرثه الإعلامي الشنيع الذي فتح الفساد على مصراعيه في كل جوانب الحياة اللبنانيّة. وفي الأسبوع نفسه الذي قامت فيه قيامة شلّة إعلام ١٤ آذار، أعلن سمير جعجع أنه تقدّم بإخبار للنيابة العامّة ومكتب مكافحة جرائم المعلوماتيّة «لكي يلاحقوا مطلقي الإشاعات» عن سوء أو توعّك طرأ على صحّته. وطلب من الأجهزة المعنيّة «أن تتابع الموضوع» ــ وهذه اللغة استعملها حسني مبارك قبل سقوطه ضدّ من شكّك بأن صحته «زي البومب».

لا، وقد أصدرت منظمة «إعلاميّون ضد العنف» بياناً يندّد بالدعوى القضائيّة من حزب الله. أين العنف في الدعوى القضائيّة كي تقحم جمعيّة «ضد العنف» نفسها فيها؟ و١٤ آذار أصدرت بياناً خاصّاً بالقضيّة دافعت فيه عن الإعلاميّة وحكمت بأنها «تلتزم قواعد الحياد المهني». وهل هناك ما يثبت انحياز وغياب مهنيّة إعلاميّة أو إعلامي في لبنان أكثر من شهادة بالحياد من الأمانة العامّة لـ ١٤ آذار؟ لا، وتحدّث بيان ١٤ آذار عن «ترهيب» وعن «كم أفواه الأحرار». وهل هناك من أحرار خارج فريق ١٤ آذار، لأن هناك كتّاباً وإعلاميّين ممن تعرّضوا لشتّى الدعاوى من ساسة وأحزاب في ١٤ آذار. وبيان ١٤ آذار يعبّر عن مقاييس الحريّة عند أمثال هؤلاء من أتباع طغاة النفط: قالوا إن الإعلاميّة تستحق التضامن لأنها «حياديّة»، أي لأن خطها السياسي ملائم لهم، مع أن التضامن الحقيقي مع الحريّات يجب أن يلحق كل الإعلاميّين والإعلاميّات، بصرف النظر عن حيادهم أو انحيازهم.

وحزب الكتائب ندّد بالدعوى وقال إنها تشكّل «تطاولاً على الحريّات الإعلاميّة»، فيما لم يقصّر رئيس حزب الكتائب الحالي في إقامة دعاوى والاستعانة بقاضي الأمور المستعجلة لمنع الصحف من نشر نقد ضد الحزب وقيادته. حتى نديم الجميّل أدلى بدلوه: لو يذكر أن أباه وضع شارل رزق في صندوق سيّارة لأنه اعترض على نشرة أخبار في تلفزيون لبنان الرسمي. لكن عندما يلحق نهاد المنشوق بالقافلة ويعترض على الدعوى، تُدرك أن الموضوع غير إعلامي البتّة، وخصوصاً أن إعلاميّة في محطة المستقبل وصفت الدعوى بأنها «جناية كبرى لم يسجّلها التاريخ». هل يشمل هذا التاريخ حرب المحكمة الحريريّة الأجنبيّة على الإعلام اللبناني الذي وقف متجاهلاً ما تعرّضت له «الجديد» و«الأخبار» من قمع، لا بل إن هؤلاء الإعلاميّين والإعلاميّات تضامنوا وآزروا المحكمة في حربها ضد الإعلام؟ وتقديس الإعلام والكلام عن «السلطة الرابعة» مضحك في بلد صغير مثل لبنان: أي نحن «بنعرف بعضنا» جيّداً. محطة أسّسها بشير الجميّل، وأخرى تأسست من عائلة بمالها، وأخرى تأسست بقرار من هذا الأمير أو ذاك، وتتحدّثون عن السلطة الرابعة وعن بطولات مهنيّة؟

والحملة التي تصيب حزب الله لا تصيب غيره من حيث التجنّي والافتئات والظلم وهو يبقى صامتاً بالرغم من الأعاصير، باسثناء بيانات نادرة لا يعرف كيف يدافع عن نفسه فيها. والحملة ضد الحزب تكثّفت بعد عقد التحالف الإسرائيلي ــ السعودي الذي كان وراء مؤامرة عدوان تمّوز. لكن فشل العدوان لم ينهِ الحرب على حزب الله، بل غيّر أشكالها: من استفزاز الحزب قبل أيّار، إلى تسعير الفتنة المذهبيّة، إلى دفق المال السعودي في الانتخابات النيابيّة من أجل حرمان الحزب من الأكثريّة. ولهذا فإن كل المنضوين في إعلام النظام السعودي والقطري يرون أنفسهم جنوداً في معركة لا هوادة فيها. وهؤلاء هالتهم دعوى قضائيّة من حزب الله أكثر من اغتيال لصحافي لبناني في «الأخبار» (عسّاف بورحّال) قتلته نيران العدوّ الإسرائيلي. أين كان هؤلاء يومها، وأين كانت حميّتهم الإعلاميّة؟

يتهمون حزب الله بكمّ الأفواه وقمع الحريّات وهم ينهالون على الحزب بالتجنّي والكراهية ويطلقون الأكاذيب ضدّه ليل نهار (وهذا يجب أن يكون حقّاً مُصاناً للإعلام، وعلى حزب الله أن يعي ذلك). الحزب بات مثل حالة روبسبيير عندما واجه الذين اتهموه بالإرهاب في «الجمعيّة الوطنيّة» قائلاً: «تتهمونني بالإرهاب؟ لو كنتُ إرهابيّاً بحق لسجدتم تحت أقدامي». ولو كان حزب الله إرهابيّاً أو لو كان يستقوي بسلاحه الصاروخي لكان كل هؤلاء قد سجدوا تحت أقدام الحزب، كما سجدوا له يوم ٧ أيّار. لكن الحزب، بعيداً عن السجال الداخلي والفولكلور الدعائي لأعوان العدوّ الإسرائيلي في لبنان، لم يستعمل سلاحَه في الداخل (وإن استعمله في الداخل السوري ــ يا للمفارقة). وموقعة القمصان السود لم تكن أكثر من عمليّة تغيير بالغ الاعتياد الديموقراطي عندما ينشق حزب عن تحالف ويلتحق بتحالف مضاد (ما ذنب حزب الله إذا كان جنبلاط يخذل حلفاءه في الجانبين باستمرار؟).

ويجب الإصرار على حق كل الإعلاميّين والإعلاميّات في التعرّض للأحزاب والشخصيّات السياسيّة من دون استثناء، لكن طبعاً من دون التعرّض للأبناء والأقارب من الذين واللواتي لم يدخلوا في الشأن العام ولا يجب أن يصبحوا مادة تداول إعلامي، حتى لو كانت حياتهم الشخصيّة لا تروق منتقديهم. لكن المناصرة الإعلاميّة الأوتوماتيكيّة لفريق ١٤ آذار الإعلامي (بجناحَيه المُجاهر والخجول) تنضح بالتستّر على الإعلام وفساده. إن القول بأن الإعلام يجب أن يكون محميّاً من دعاوى الأحزاب والشخصيّات السياسيّة لا يعني أن الفساد الإعلامي يجب أن يبقى خارج الحملات الفولكلوريّة السطحيّة ضد «الفساد» (الحملة اللبنانيّة ضد «الفساد» هي مثل الحرب الأميركيّة ضد «الإرهاب»، أي أنها تختار مَن تحارب وفق معاييرها السياسيّة المنحازة). لكن، ماذا عن إعلام لا يفرّق بين الإعلام والإعلان؟ وماذا عن إعلام يروّج للأصحاب والشركاء؟ وماذا عن إعلام النحيب والتفجّع على وسام الحسن (الذي سمح لنفسه بالدخول في حقل الإعلام عبر «روّاد» الإعلام)؟ وماذا عن إعلام يتقاضى المال عن الخبريّة أو عن السؤال أحياناً؟ وكيف مرّت من أمام أنظار كل هؤلاء رسالة حسن صبرا إلى الملك السعودي؟ هذه لا تخلّ بمعايير المهنيّة في الإعلام؟ أم يجوز له ما لا يجوز لغيره لأنه من الفريق السياسي نفسه؟

والبرامج الحواريّة تحتاج إلى دراسة نقديّة (وليس لمقاضاة) عندما تستغرق المُحاورة في الحديث أكثر من الضيف، إذا كان المُحاور ينتمي إلى ٨ آذار، فيما تكون الحلقة الموافقة بإلإيماء فقط من المحاورة عندما يكون الضيف من ١٤ آذار. أو عندما تكون المُحاججة عبر تبنّي «وجهة النظر الأخرى» مع ضيف من ٨ آذار اجتراراً أوتوماتيكياً لكل خطاب ١٤ آذار، وتكون المحاججة عبر تبنّي «وجهة النظر الأخرى» مع ضيف من ١٤ آذار عبارة عن تشويه مقصود لمواقف ٨ آذار (مثل القول عن لسان حزب الله: «لكن الحزب يقول إنه يتدخّل في سوريا لحماية الشيعة»، ولا يكون الحزب عبر أي من مسؤوليه قد تفوّه بعبارات كهذه). أو تحميل حزب الله المسؤوليّة عن نوح زعيتر (فقط لأنه يقطن في البقاع) وعدم تحميل ١٤ آذار المسؤوليّة عن حليفهم صبحي الطفيلي (وهو في منطقة نوح زعيتر نفسها) والذي يكاد لا يختفي عن شاشات النفط لتكرار خطاب حكّام النفط: حتماً لا يحظى الطفيلي بحماية حزب الله. وهذا النوع من الإعلام حوّل قضيّة فساد الأمير السعودي وتهريبه طنين من المخدّرات إلى قضيّة ضد حزب الله وحُمِّل الحزب المسؤوليّة كاملة عن الأمير لأن صاحب المحطة لا يجرؤ على أن يسمح بالحديث عن أمير سعودي (إلا إذا كان ذلك الذي اختلف معه على حصص المال).

لا، ليس من مهمّة حزب الله أو أي طرف سياسي آخر رصد ما يكتب الناس على مواقع التواصل الاجتماعي. وفريق ١٤ آذار مذنب أكثر من غيره في قمع الإعلام، والسيطرة عليه أو منعه بالمال والقانون المُفصّل على مقاس أصحاب المال والنفوذ. لكن محاولة آل سعود منع محطة «الميادين» من «عرب سات» لم تحظ بتعليق من واعظي وواعظات الحريّات. وتدنّي مستوى البرامج الحواريّة السياسيّة لا يعني أن هذا الحزب أو تلك الشخصيّة هي مخوّلة بتأديب الإعلام. تأديب الإعلام يدخل في مهمات رمز المهنيّة الإعلاميّة وخليفة يراع أحمد فارس الشدياق وبطرس البستاني: لدينا في لبنان نقيب الصحافة عوني الكعكي. لنحتكم إليه.