تجلّى جبران باسيل خلال تلاوته بيان تكتّل الإصلاح والتغيير بانفتاحه الكليّ على المكوّنات السياسيّة الأخرى، سطع كلامه على مزيد من توازن كثيف عززته الفلسفة الميثاقيّة برأي مصادر في التيار الوطني الحرّ، وأعطته بعدًا تكوينيًّا غير محصور بتأليف الحكومة بقدر ما يتخطّاها كحالة تفصيليّة ناظمة لسيرورة الدولة وديمومة مؤسساتها، إلى البدء في النقاش حول مشروع قانون انتخابات من المفروض أن يتميّز بأمرين جوهريين: المسبيّة المطلقة، والمناصفة الفعليّة.
يظهر كلامه ذلك التغيير الجذريّ والتحوّل الفعليّ في الجوهر الكيانيّ للتكوين اللبنانيّ بحسب المصادر، ذلك أنّ التكوين اللبنانيّ هو الجوهر والخواصّ، وليس ثمّة ما يعبّر عنه إلاّ التلاقي الفعليّ بين لبنان المسيحيّ، ولبنان المسلم، بشراكة ميثاقيّة تجيء من العهد لتؤكّد العقد. لقد قال باسيل: «النقاش الحكومي يتخطى الحقيبة والمقعد الى ما هو ابعد، فنحن امام واقع سياسي جديد لا يحب البعض الاعتراف به، اذ كنا في وضع غير طبيعي واستثنائي فيه الغاء وتهميش واحباط واليوم نعود الى وضع طبيعي الناس ممثلون فيه خير تمثيل والميثاقية قائمة»، وينطلق القول من لحظة عتيقة سادت بثقلها السياسيّ وعنفها النفسيّ ومداها الاجتماعيّ، احتشدت كلّها ضمن منظومة واحدة وعنوان واحد، وهو استبعاد المسيحيين واستبقاء استيلادهم في كنف الآخرين. ذاك هو الداء، وانتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهوريّة هو الدواء، وقد تحوّل انتخابه كركيزة ومعطى يتمّ على أساسه إنهاء مسألة التهميش والإحباط، لتنطفئ اللحظة العتيقة وتضيء لحظة جديدة تحمل المعنى الجديد المتسامي بتجديد المنطلقات الميثاقيّة وتحديدها بأبعادها الوجوديّة والتأسيسيّة.
وبالعودة إلى بيان تكتّل التغيير والإصلاح، تجدر الإشارة هنا إلى أنّ جبران باسيل كرّس الحقيقة الميثاقيّة وجسّدها بالرسائل التي قام بتوجيهها للجميع. وبحسب مقرّبين منه ليس من احد مقصى ومستبعد عن التأليف، لكن وكما يعتبر هؤلاء المقرّبون، إنّ الشراكة في التأليف لا يجب على الإطلاق أن تنفصل وتنفصم عن الهدف الجوهريّ والأساسيّ وهو بناء الدولة العادلة والقويّة والمتينة والخالية من الفساد والبريئة من العيب، فقضية التأليف وبحسب هؤلاء، وبتفسير أوضح للبيان ليس لأجل التأليف، أي على طريقة مدرسة الفنّ للفنّ، ومسألة المحاصصة لا تبطل الاحتكار بقدر ما تعزّزه تتوزّعه وتجعله جزءاً من إدارة المتحاصصين للدولة بتشعيب الفساد وتجزيئه على مقاسهم وشركائهم، وهذا عيناً ما يرفضه التيار والتكتّل وما يرفضه رئيس الجمهوريّة على وجه التحديد استناداً إلى خطاب القسم وفيه أظهر حرصاً كبيراً على مكافحة الفساد وقمعه بل اقتلاعه من جذوره.
الصلابة في بيان تكتّل التغيير والإصلاح متجليّة بهذا المبدأ الجوهريّ وعنانه مكافحة الفساد، يضاف إليه عدم التلاشي بما خصّ الواقع المسيحيّ في لبنان ومنه نحو المشرق العربيّ، إنهما وكعنوانين القاعدتان المطروحتان لكلّ تفاهم وانفتاح وتحالف ولبناء شراكة وطنيّة كاملة، تعبّر عن الجدّة في الرؤى. لكنّ المرونة تكشفّت في خطاب باسيل أو بيانه بالرسائل الطيبة والإيجابيّة بحسب المقربين منه والتي وجّهها لكلّ الأطراف المعنيّة بالنقاش حول التأليف، والمعنيّة بدورها بالنقاش حول مشروع قانون للانتخابات. في هذا البيان عينًا ركّز باسيل في معاني التحالفات والتفاهمات ليس السياسيّة الآنيّة أو اللحظويّة بل في آفاقها الاستراتيجيّة، وقد ظهر التوق عنده نحو هذا المنحى وبخاصّة على المستوى المسيحيّ رافضًا مقولة الثنائيّة المسيحيّة، على غرار ما يقال عن الثنائيّة الشيعيّة وتلك بدورها رسالة إيجابيّة أبلغها للفريق الخاشي من تكوّنها الآحاديّ ربّما. فالآفاق الاستراتيجيّة على الساحة اللبنانيّة تترجم بترسيخ الاستقرار الداخليّ ليس من باب الإمساك الجامد حين كان جامدًا وقابضًا على الكيان خلال فترات سابقة من القوى اللاعبة على أرضه، بل من التماسك المتين والصلب المتجلّي أيضًا من قراءة الأطراف اللبنانيين لواقعهم في منطقة كاملة الاشتعال. وفي الوقت نفسه، إنّ الآفاق الاستراتيجيّة على المستوى المسيحيّ وهذا ما لم يظهره باسيل ولكنه سعيّ قائم في أدبيات التيار المستندة إلى ورقة التفاهم مع حزب الله، تترجم بالفهم الدقيق والعالي جدًّا لمعاني الحرب في سوريا والأهداف التي ظهر بعضها قبل معركة حلب وفي معارك أخرى والنتائج أيضاً، وتقول أوساط عالمة بانّها ستتوسّع وتكتمل خلال معركة حلب وقد بدأت تبلغ لحظات الحسم السريع لمصلحة الدولة السوريّة ولمصلحة تسوية سياسيّة يكون فيها الرئيس بشار الأسد القطب الجوهريّ.
المهم في هذا البيان العميق والصادق، المقدّم بلغة سهلة وغير معقدة، أنّه أظهر حرصًا على التواصل مع الجميع، رافضًا أمرين بحسب المقربين من باسيل:
– الأمر الأوّل: منطق الثنائيّات وهو منطق قامع لمبدأ النسبيّة، والتيار الوطنيّ الحرّ وكما تكتّل التغيير والإصلاح حريص على ترسيخ مبدا النسبيّة في قانون للانتخابات النيابيّة، كما هو حريص على تكريس المناصفة الفعليّة بين المسيحيين مبيحًا بها الشراكة الحقيقيّة بين المكونات اللبنانيّة. وعلى هذا الأساس قام التيار والتكتّل بتبنّي مشروع اللقاء الأرثوذكسيّ الانتخابيّ وهو لا يزال الوحيد على رأس قائمة المشاريع في المجلس النيابيّ لمناقشته في الجلسة العامّة وإقراره، من دون أن ننسى أنّ رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون كتب عنه مقالاً في جريدة السفير مظهرًا فوائده وضرورته على المستوى الوطنيّ وصولاً نحو تحقيق ما هو منصوص عنه في المادتين 24 و95 من الدستور اللبنانيّ.
– الأمر الثاني: منطق العزل والانعزال. لقد أظهرت التجربة اللبنانيّة بحروبها المتراكمة أو بما اسماه غسان تويني رحمه الله «حروب من أجل الاخرين» Des gueres pour les autres بأنّ عزل فريق لآخر أو طائفة لأخرى كان المنطلق الجوهريّ لاشتعال الأرض اللبنانيّة بتلك الحروب. فحين عزلت الجبهة الوطنيّة مع الراحل كمال جنبلاط الجبهة اللبنانية وبخاصّة حزب الكتائب اللبنانيّة مع الشيخ بيار الجميل وردّ الأخير العزل بالمثل من أجل ياسر عرفات اندلعت الحرب اللبنانيّة واستمرّت لمدة ثلاثين عامًا «لا أب لك يسأمِ» كما قال الشاعر الجاهليّ زهير بن أبي سلمى. كلّ عزل وإنعزال إباحة للحروب، وجاء كلام جبران باسيل إفصاحًا لهذا المبدأ في علاقة المسيحيين مع المسلمين، وفي علاقة المكونات اللبنانية مع بعضها وعلاقة التيارات السياسيّة والحزبية مع بعضها. وتقول بعض المصادر بأنّ باسيل في رسائله تعمّد أن يوضح الرؤية لتيار المردة وبخاصّة للنائب سليمان فرنجيّة بكلّ حرص وأمانة، مظهرًا الرغبة بالتعاون لتسييل التأليف وتسهيله والمضيّ به نحو نهاياته المضيئة والسعيدة.
وفي بعض المعطيات، إنّ الكلام الإيجابيّ المقول بوضوح، ناتج من مساع حميدة قام بها حزب الله ما بين حلفائه القدماء، الرئيس نبيه برّي، الوزير جبران باسيل، والنائب سليمان فرنجيّة. لقد تبيّن هذا الأمر من خلال الحراك الدائم الذي قاده الحاج وفيق صفا والحاج حسين خليل ضمن وساطة واضحة المعالم والآفاق بينهم وبين وزير الخارجية جبران باسيل وبينهم وبين الوزير علي حسن خليل، وبينهم وبين الوزير سليمان فرنجيّة. أثمر هذا الحراك تذويبًا واضحًا للتصلّب القائم عند معظم الأفرقاء السياسيين وإبداله بطراوة ومرونة انسابا بوضوح في موقف باسيل وصولاً إلى موقف الرئيس برّي وموقف قائد القوات اللبنانيّة الدكتور سمير جعجع خلال زيارته قصر بعبدا أمس، فيما تبيّن بانّ تيار المردة مع زعيمه سليمان فرنجيّة لا يزال يلوذ بالصمت.
السؤال المطروح هل ستتألّف الحكومة قبل موسم الأعياد؟ ليس من سبب لربط التأليف بالمواسم، فالربط للترف والتسلية. يجب أن يتبلور الإصرار اكثر على التأليف والمضيّ به نحو خواتيمه، فهو ليس الهدف، هو الوسيلة للوصول نحو هدفين واضحين:
-الهدف الأوّل: تعزيز منطق الدولة كما أسلفنا، وتلك حاجة للمسيحيين والمسلمين على السواء، حاجة للسنة والشيعة والدروز، وحاجة للمسيحيين على مذاهبهم كافّة. والحاجة تترجم كما قال جبران باسيل بمكافحة الفساد على انواعه في مرافق الدولة ومؤسساتها، في كلّ الاستثمارات العائدة لقطاعاتها وما إليها. الفساد يقضي على طموحات اللبنانيين ويفجر البلد من احشائه، الفساد موت ودمار لجميع اللبنانيين. وهذا يقتضي ايضا تقديم الموازنة المالية ليصار إلى مناقشتها كما يناقش بيان الحكومة في الجلسة العامة للمجلس النيابيّ.
-الهدف الثانيّ: وهو تكوينيّ إصدار قانون للانتخابات يبطل مفاعيل كلّ القوانين الانتخابية البالية والبائدة كمثل قانون عام 2000 أو قانون الستين… تلك قوانين لم تعد تصلح لتكوين نظام سياسيّ يحمي لبنان الكيان. فالقوانين الهجينة كالقانون المختلط وهذا ما يقوله علماء الدستور، قد تتحوّل إلى مشاريع احتراب مرتقبة على المستوى السياسيّ، ذلك أن ليس من تجانس Homogénité بين من ينتخب على أساس أكثريّ ومن ينتخب على اساس نسبيّ، بل على العكس ستكون العلاقة بينهما خاصعة لفوقية ودونيّة بين النائب من هنا والنائب من هناك. القانون الأساسيّ المطلوب يرتكز على النسبية المطلقة سواء جاء من ضمن لبنان دائرة واحدة أو مجموعة دوائر، مع تأكيد المناصفة الفعليّة ضمن إطار ما جاء في مشروع اللقاء الأرثوذكسيّ، وقد أكّد عليه اللقاء في بيانه الأخير.
استقرار لبنان يستكمل بعملية التأليف ضمن قاعدة عدم مخالطته بالفساد، والاتجاه نحو إقرار للانتخابات يكون على مقدار آمال اللبنانيين جميعًا ويحقّق رجاءهم بوطن سليم وكريم ومعافى.