يحسب خصوم حزب الله، بدقّة، ما يقوم به منذ أربعة أشهر في الميزان العسكري والسياسي. عسكرياً، تدور شكوك حول إمكان استثمار الاشتباك جنوباً في المعادلة الإقليمية، والحوار حول ما بعد حرب غزة وتفعيل القرار 1701 بعد وقائع مفاوضات إقليمية ودولية لم تذهب في هذا الاتجاه. وسياسياً، هناك حسابات أخرى لا تصبّ في خانة الربح الصافي للحزب. ولم يكن ينقص حزب الله سوى المواقف الأخيرة للتيار الوطني الحر، ليكتمل المشهد الداخلي المعارض لتدخّله في حرب غزة، وتالياً لتحقيقه أرباحاً صافية منها.يقرأ خصوم الحزب موقفه منذ حرب غزة على أنه عالق بين حدّين، الأول قفزة حماس في 7 تشرين الأول الى المشهد الإقليمي وإمساكها بورقة القضية الفلسطينية، والثاني سعي إيران الى تحقيق توازن بين ورقة فلسطين والتهدئة مع الولايات المتحدة. لذا يتنقل الحزب بين النقاط، محاولاً بالحدّ الأدنى تحقيق توازن عسكري في الردود المدروسة مع إسرائيل، وبالحدّ الأقصى منع تفلّتها نحو حرب واسعة. وبين الاثنين، يحاول تحقيق مكسب على المدى البعيد في الحفاظ على قوته ودوره الإقليمي، فلا يخسر من حضوره في الوقت الذي تسعى فيه إسرائيل الى تدمير قوة حماس.
وتقاطعاً مع معلومات دوائر غربية تتواصل مع جهات لبنانية معارضة للحزب، فإنّ ثمة اقتناعاً شبه كلي بأن الأخير لن يفتح ثغرة عسكرية تسمح لإسرائيل بتوسيع اعتداءاتها إلى عمليات نوعية خارج الجنوب أو استهداف قيادات حزبية. لكن ذلك لا يمنع أن عامل القلق قائم من رغبة إسرائيل في استدراج الحزب ووضعه في منطقة شائكة، تدفعه حكماً الى الردّ الأوسع مدى. وكان يفترض أن يأخذ الحزب ذلك في الحسبان، فيقيس خياراته الداخلية في شكل أكثر واقعية.
مشكلة حزب الله اليوم، وفق خصومه، لا تنحصر بالواقع العسكري فحسب، وإنما تتعلق بإدارته المعركة مع إسرائيل من دون الالتفات الى ما سيرتدّ عليه داخلياً في اليوم التالي لغزة، وعدم تقديره حجم الخطوات الناقصة داخلياً وتفاعلها مستقبلاً. ومن الصعب تقبّل أنه سيكون قادراً على استثمار صاف بعدما أصبح على مسافة كبيرة من معظم القوى السياسية، على عكس عدوان تموز وحرب سوريا، عندما كان أفرقاء الداخل منقسمين أفقياً بين مؤيد ومعارض، وعندما بقي الحزب مطمئناً الى سند خلفي يقيه من أيّ ارتداد شعبي عليه. فانضمام التيار الوطني الحرّ الى الصف المعارض لتماهي الحزب مع غزة، لا يتعلق فحسب بورقة التفاهم والانقضاض عليها، وهذا تبسيط لحقيقة الخلاف بينهما الذي تحوّل عميقاً بين شريحتين، كما هو تبسيط القول إن موقف التيار الاستراتيجي يتعلق بردة فعل وليس بموقف جوهري. ما حصل هو خرق إضافي في شبكة الأمان الداخلية التي كانت تشكّل مظلّة سياسية للحزب. من هنا، نظر خصوم الحزب الى انضمام حركة أمل الى الواقع الجنوبي العسكري بمعنى تحصين الجبهة الداخلية الشيعية، في وجه تكتل الخصوم والأضداد.
مشكلة حزب الله، وفق خصومه، إدارته المعركة من دون الالتفات إلى الارتدادات الداخلية في اليوم التالي
عادةً، يحاول الحزب تخفيف خسائره الداخلية وتقليص معاركه في الداخل عند أي استحقاق إقليمي كبير مثل الذي يحصل في غزة. ومع ذلك، هناك تساؤلات حول السبب الذي جعله يقوم بخطوات ناقصة. فهو أصلاً يعاني من حجم ردود الفعل عليه من خصومه، وزاد عليهم بكركي التي انفجر الخلاف معها رغم وساطات ولقاءات جانبية، ثم التيار بعد «الإمعان» في مسار «الانقلاب» عبر الحكومة ومبدأ قيامها بالتعيينات، الى التمديد لقائد الجيش، ثم تعيين رئيس الأركان. والأهم أن الحزب، في لحظات مفصلية، انحاز الى الرئيس نبيه بري، وإلى رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، وإلى الزعيم الدرزي وليد جنبلاط. ورغم اختلاف مواقع الثلاثة وتأثيراتهم في مرحلة التفاوض الداخلي، إلا أن الغطاء المسيحي الواسع لم يعد مؤمّناً في علاقة حزب الله بالمكوّنات المسيحية، والتي كان التيار بوصفه الأكثر تمثيلاً – وهنا الأهم شعبياً – قادراً على أن يحققها كما فعل في حربَي تموز وسوريا، وتحديداً حرب سوريا التي كان العماد ميشال عون مدافعاً أول عن الحزب فيها.
الأكيد أن حرب غزة ستنفتح عاجلاً أو آجلاً على مفاوضات، ومنها ما يتعلق بترتيبات داخلية تشمل كل المستويات. ما يقوله حزب الله اليوم وما يفعله لم يعد يتعلق بخصومه. وهم وإن لم يكونوا على ثقة كاملة بالتيار الوطني، بعد تجارب سابقة، إلا أنهم يلاحظون أن الأخير لم يتراجع منذ أشهر عن السقف الذي رفعه، ولو كلّفه العلاقة مع الحزب. فكيف الحال إذا كان الحزب هذه المرة هو الذي تخلّى عن التيار، وأن الأخير بات يعطي للواقع المسيحي في علاقته مع حزب الله بعداً آخر، يتعدّى التوظيف والمحاصصة التي كانت تؤمن له مصالحه. وهذا ما يجعل اليوم التالي لغزة، لبنانياً، يفرض واقعاً تتراكم فيه نتائج الخطوات التي اتخذها الحزب تجاه حلفائه وخصومه. وبين الثقة الزائدة لدى الحزب بأنه سيقبض ثمن حرب غزة، واطمئنان خصومه إلى أن الواقع الإقليمي والدولي لن يغطي هذا الثمن، وصلت الهوّة بين الحزب والمكوّنات المسيحية الى مستوى لم يسجّل منذ ما قبل عام 2005.