تشكّل عمليتا الاغتيال اللتان نفّذهما العدو الإسرائيلي في الضاحية الجنوبية لبيروت وفي طهران، نقطة تحول في الحرب الدائرة في قطاع غزة، وتصعيداً إلى سقف أعلى في المعركة الدائرة على مستوى المنطقة، ما وضع جميع الأطراف أمام سيناريو الرد والرد المضاد الذي سيتصاعد فيه مستوى المعركة، وقد يدفعها نحو تصعيد أعلى و/أو نحو صيغة محددة لوقف الحرب على غزة.
أهم ما في اغتيال القائد الجهادي الكبير في حزب الله السيد فؤاد شكر (السيد محسن) ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية أنه يندرج في سياق أمني واستراتيجي واحد. ويؤسس الرد عليه وما سيليه لسيناريوهات ومعادلات جديدة على مستوى المنطقة، علماً أن وحدة السياق الاستراتيجي لا تتعارض مع خصوصية كل من الساحتين والأهداف الخاصة المرتبطة باغتيال كل من الشهيدين ورسائل الموقع الجغرافي للاغتيال.
من المؤكد أن قرار توسيع نطاق الاعتداءات إلى العمق الاستراتيجي للمقاومة في لبنان، واستهداف أحد كبار قادة حزب الله العسكريين، استند إلى تقدير استراتيجي حول مخاطر جبهة الإسناد في جنوب لبنان وتداعياتها على مخطط كيان العدو للاستفراد بغزة، وإدراكاً لحقيقة أن توفير شروط استكمال المخطط ضد غزة يتطلب تحييد جبهات الإسناد التي إن تواصلت (وهي ستتواصل وتتصاعد) ستقلب نتائج المخطط بشكل معاكس لما يأمله كيان العدو.
انطلاقاً من هذه الرؤية، كان قرار قيادة العدو، من ضمن قرارات أخرى موازية (اغتيال هنية في طهران)، بهدف فرض معادلة رد واستهداف مُركَّز في الضاحية الجنوبية، العمق الاستراتيجي للمقاومة. وهو أراد بذلك القول، عملياً، إنه لم تعد هناك أي شخصية أو منطقة محصّنة في لبنان. كما تعمّد إيصال رسالة بأنه لن يقيّد نفسه بأي أساليب وإنما ستكون مفتوحة في الأرض أو عبر سلاح الجو.
بذلك، يكون العدو قد أظهر تصميمه، بلغة عملياتية، على أن مضي حزب الله في إسناد غزة سيُقابل بسياسة استهداف غير مسبوقة أشد خطورة، وتدفيع حزب الله ثمناً لهذا الخيار وفق مخطط مدروس، رغم مخاطر تكبيده أثماناً في مقابل ذلك.
أمام هذا المشهد، وفي ظل التقديرات والرهانات والخيارات التي يتبناها العدو، بلور الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله قرار الرد وفق محددات مدروسة بدقّة. فاعتبر أن ما جرى في الضاحية ليس فقط عملية اغتيال، وإنما عدوان شمل أيضاً مدنيين، وفي منطقة تقع خارج قواعد الاشتباك الحاكمة منذ عشرة أشهر. ومن الواضح أن هذا التحديد يؤشر إلى أن الرد سيحاكي هذه العناوين. ومع أن الاستهداف يندرج أيضاً ضمن المعركة القائمة منذ قيام الكيان، إلا أنه ترجمة لقرار العدو برفع ثمن إسناد حزب الله لغزة والشعب الفلسطيني، ما يدخل المعركة القائمة في مرحلة جديدة، وينقلها من الإسناد الى معركة كبرى مفتوحة في كل الجبهات. ومع إعلانه «لو قتلتم من قتلتم، ودمّرتم ما دمّرتم وأعلنتم حرباً هنا وهناك، وذهبتم إلى أبعد الحدود وتجاوزتم كل الخطوط الحمر بِمعزل عما نفعل نحن، لن يكون هناك حل سوى بوقف العدوان على غزة»، يكون نصرالله قد أحبط الهدف الرئيسي من وراء عملية الاغتيال.
وأوضح السيد نصرالله بعض المحددات التي تؤشر إلى آفاق الرد ومزاياه وأهدافه، فأشار إلى أن محور المقاومة «يُقاتل بغضب وبعقل وحكمة»، مؤكداً أن الرد سيكون «حقيقياً، وليس شكلياً… وهو رد مدروس جداً». وبذلك يكون قد أبعد الحسابات الحماسية والانفعالية عن قرار الرد.
في ضوء ذلك، يكون حزب الله قد التزم، بشكل حاسم، بأنه سيقابل تصعيد العدو لعدوانيته بتصعيد مضاد لإحباط أهدافه، وفرض رد مدروس بهدف التأسيس لمعادلة ردع تكبحه عن التمادي والمبادرة الابتدائية، وتقيّد ردوده بنسبة أو بأخرى. وفي المقابل، فإن خطة العدو بوضع حزب الله أمام اختبار للمخاطرة برد مضاد، تدفع المسارات العملياتية نحو سيناريو تبادل الضربات المركزة والقاسية. ومن الواضح أن هذه المعادلة تنطوي على إمكانية التدحرج نحو أكثر من سيناريو (وليس فقط الحرب الشاملة كما يتوهم البعض).
بالموازاة، لم تخفِ الولايات المتحدة توجهها بالعمل على منع التدحرج نحو حرب شاملة كبرى في المنطقة، وهو موقف يتعارض مع سياسة التهويل التي راهن عليها نتنياهو. إلا أن موقف إيران بالرد مهما كانت التداعيات، وحسم حزب الله قرار الرد المدروس، رفعا مستوى المخاوف في واشنطن من أن تصميم الطرفين يرفع من نسبة احتمال تحقق السيناريو الأشد خطورة والذي سيطاول مصالحها في المنطقة أيضاً. ولذلك، وجدت نفسها مضطرة إلى عدم مجاراة نتنياهو في سياسة التوثب والمبادرة، وتعمّدت الإعلان على ألسنة مسؤوليها بأن إجراءاتها ومواقفها دفاعية وردعية لمحاولة قطع الطريق على سيناريو الحرب الشاملة.