البنتاغون والـ “سي اي ايه” يُحذران من نتائج
الاستنزاف مقابل الحسم السريع… من ينتصر؟
تقف “اسرائيل” بحيرة امام الغموض و “الاعصاب الباردة” التي يدير بها حزب الله القتال حتى الآن، ويبدو ان الاحتفالية التي تبدت في الساعات الاولى عقب الغارات الجوية غير المسبوقة، بدأت تخبو مع دعوات لاكثر من مسؤول سابق واعلامي مقرب من دوائر القرار، الى عدم المبالغة في تقدير النتائج والخسائر التي لحقت بقدرات الحزب، مع خلاصة متفق عليها لدى الجميع بان الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله لن يتراجع او يرفع “الراية البيضاء”، ما سيجبر الجيش “الاسرائيلي” على تنفيذ مناورة برية تبدو حتمية، ومحفوفة بمخاطر كبيرة وغير مضمونة النتائج. فكيف يدير كل طرف المواجهة حتى الآن؟
من الواضح اننا في مرحلة “عض الاصابع” ومن يصرخ اولا، ولا احد يعرف متى ترتقي الحرب الى مرحلة اكثر اتساعا وقساوة، لكن بالمقارنة مع حرب تموز 2006 يبدو ان “اسرائيل” تعيد سيناريو الحرب، لكن بنسخة معدلة بعض الشيء لجهة حجم القوة النارية، والخرق الاستخباراتي الذي ترجم بمجزرتي “البايجرز” والاجهزة “اللاسلكية” واغتيال جزء من قيادة “الرضوان”، لكن معضلتها المتمثلة بالتخلص من الصواريخ الدقيقة وغير الدقيقة، يشوبها الكثير من التعقيد، كما تقول مصادر مقربة من حزب الله، ويبدو ان سيناريو الفشل يعيد نفسه مجددا. ففي حرب تموز استنف العدو أهدافه في أسبوع، واعلن الانتصار بعد اعتقاد خاطىء بانه تخلص من صواريخ المقاومة، ولهذا بقيت الطائرات تحلق فيما تبقى من ايام الحرب ال33 دون مهمات واضحة، وكانت تستهدف بنى مدنية لا عسكرية، بعدما استنفدت اهدافها المبنية على تقديرات استخباراتية خاطئة، نتيجة خديعة نجح فيها حزب الله، وقد انتهت تلك الحرب بمأزق استراتيجي لـ “الاسرائيليين” يترجم حاليا بمواجهة اشد مع “عدو” اعد نفسه لهذه المواجهة طوال 18 عاما.
واليوم التاريخ يعيد نفسه، فالعدوان الجوي “الاسرائيلي” استهدف 1600 موقع في يوم واحد، وكانت شدّة الضربات ضعف ما كانت عليه في اليومين الأولين من حملة القصف “الإسرائيلية” في غزة العام الماضي، وأربعة أضعاف المعدل اليومي المتوسط لضرب 428 هدفاً في غزة على مدى الأسابيع الخمسة التالية، وفقاً للأرقام الرسمية. كما أن هذا المعدل أعلى بنحو ثمانية أضعاف من متوسط 200 هدف ضربتها “إسرائيل” يومياً أثناء الحرب عام 2006، عندما شاركت 70 طائرة “إسرائيلية” يومذاك. فيما اليوم تجاوز عدد الطائرات المشاركة 250 طائرة، وهذا الامر تكرر منذ يوم الاثنين الماضي. وكما في الايام الاولى لحرب تموز عندما اعلن المسؤولين “الاسرائيليون” الانتصار، واكتشفوا سوء التقدير في حساباتهم، يتكررالامر اليوم، بعدما بدأ التفاؤل يتراجع ازاء القضاء على منظومة صواريخ المقاومة، وترجم ذلك بانتقاد مصدر عسكري في جيش الاحتلال التوقعات غير المسؤولة لوزير الحرب يؤاف غالانت، الذي تحدث عن النجاح في القضاء على 50 في المئة من قدرات حزب الله الصاروخية.
وفي هذا السياق، اشار المحلل العسكري في صحيفة “هآرتس” عاموس هارئيل، إنه لا يثق بالزعم “الإسرائيلي” الرسمي بأن 50% من قدرات حزب الله تم تدميرها، مرجحاً أن الرقم غير المؤكد قد يكون بين 20 و30 في المئة. وقال “لم نرَ استسلاماً، ولا نرى تحولاً استراتيجياً حتى الآن. هناك حالة انتشاء في “إسرائيل” أساسها الظنّ بأن فتح الجحيم على لبنان سيكسر حزب الله، وهذا غير صحيح”.
ولفت هارئيل الى المعضلة “الاسرائيلية” الحالية تكمن في انعدام الخيارات وقال “إن إسرائيل سبق أن هدّدت بأن استهداف “تل أبيب” سيُرَدّ عليه بضرب الضاحية، متسائلاً كيف سترد الآن، وما هي استراتيجية “إسرائيل”، فاستمرار هذا التدهور يعني الانزلاق الى حرب شاملة، ربما بمشاركة إيران، التي لا تستطيع التسليم بتبدّد قوة حزب الله، وعندئذ ماذا سنفعل”؟
في المقابل، يبدو ان حزب الله قد طور كثيرا تكتيكاته مستفيدا من تجربة الحرب في تموز، خصوصا في مجال القدرات الصاروخية والمسيرات، وبات يملك شبكة من الأنفاق الضخمة العصية على الاختراق، التي تسمح له بالاحتفاظ بقدراته بعيدا عن الاستهداف، وهو نجح حتى الآن في اثبات قدرة عالية على تقنين الرشقات، وبدأ امس بمرحلة نوعية جديدة عبر “رسالة” استهداف مبنى المواد في “تل ابيب” بصاروخ باليستي، مع ادخال صفد وحيفا ضمن دائرة الاستهداف اليومي، بقصد شل الحياة في تلك المدن ومحيطها، دون التوسع في استهداف المدنيين، رغبة منه بربح المعركة باقل الخسائر الممكنة، عبر دفع العدو الى اليأس من الرهان على الانتصار بالحملة الجوية، دون التسبب بتعريض الضاحية وبيروت لقصف ممنهج ومدمر، واجبار حكومة الاحتلال على اتخاذ قرار الدخول في مغامرة برية، ستكون “مصيدة” للجيش “الاسرائيلي”.
في الخلاصة، تدعو الاوساط المقربة من حزب الله الى عدم القلق على قدرات المقاومة والثقة بقيادتها العسكرية والسياسية للمعركة، فالمقاومة تعتمد استراتيجية التصعيد التدريجي وفق خطط وضعت سابقا، وكانت تفترض حصول هذا الهجوم الجوي الواسع، هي لم تستخدم بعد سلاح المسيّرات على نحو كثيف، علما انها الانجح في خرق الدفاعات الجوية “الإسرائيلية”. وحتى الآن، لم يطلق الا صاروخ باليسيتي واحد، وهذا الامر قد يتغير فجأة ودون سابق انذار في توقيت محسوب جدا، قد يصاحبه تصعيد مماثل من جبهات الاسناد.
وفي هذا السياق، توقعت دراسة اجرتها جامعة “رايخمان الاسرائيلية” ان يطلق حزب الله في هذ اليوم نحو 3000 صاروخ ومسيرة، مع التركيز على اهداف استراتيجية محددة لإرباك الدفاعات الجوية “الإسرائيلية”، تشمل قواعد عسكرية ومدن كبرى.
في الخلاصة، فان الصاروخ “اليتيم” حتى الآن على “تل أبيب”، ومجمل ردود فعل حزب الله حتى الآن على الهجمات الجوية الواسعة، تدل على الرؤية المتناقضة لدى الطرفين في إدارة المواجهة، فالمقاومة تستدرج نتانياهو الى حرب استنزاف طويلة، فيما “إسرائيل” تستعجل برمي “اوراقها” لانها تدرك خطورة النزيف، وتبحث عن استعادة قوة الردع والهيبة، عبر اعادة النازحين لمستوطنات الجليل. وفي سياق فهم حقيقة قدرات حزب الله، بدأ النقاش في “اسرائيل” يدور حول سؤال بالغ الاهمية: “هل الحملة البرية هي الحل”؟
فبعد الإدراك أن الهجمات الجوية مهما كبرت، لن تحقق الهدف الأخير، ولأن مئات الآلاف من “الإسرائيليين” دخلوا منذ يوم امس دائرة الطوارئ والاستهداف، تسود القناعة لدى معظم المحللين الصهاينة بانه لن يكون هناك مناص من شن حملة برية، لأن الضغط الجوي على حزب الله لن يدفعه الى الاستسلام، وهي خلاصة تتفق معها دوائر البنتاغون ومجتمع الاستخبارات الاميركية، وهم بحسب صحيفة “بولتيكو” الاميركية غير واثقين من نجاح استراتيجية “اسرائيل”، ويتوقعون ردا قويا من حزب الله، عندئذ ستضطر “إسرائيل” الى الدخول البري، وعندئذ سيكون الثمن باهظاً في صفوف الجيش “الاسرائيلي” والجبهة الداخلية أيضاً، وحرب كهذه ستورط “إسرائيل” في وحل لبناني لأشهر طويلة، دون الوصول إلى نتيجة.
ويبدو من الايام القتالية الاولى ان “اسرائيل” لم تتعلم الدروس من حرب تموز، ويبدو ان التاريخ يعيد نفسه، لكن هذه المرة ستكون المواجهة قاسية، ونتائجها استراتيجية، لانها معركة “حياة” او “موت” لكل الاطراف، وهي سترسم المعادلات في المنطقة وفق موازين القوى الجديدة.