استهدف الإعلان عن استشهاد العسكريين اللبنانيين المحتجزين لدى «داعش» توجيه ضربة إلى الانتصار الذي حققه الجيش على الإرهاب والإرهابيين والمتحالفين معهم في معركة «فجر الجرود».
يأتي على رأس هؤلاء الإرهابيين، والمتحالفين معهم، النظام السوري الذي يتبيّن كلّ يوم أنّه و«داعش» وجهان لعملة واحدة، ولا شيء آخر غير ذلك بعدما وضع كلّ منهما نفسه في خدمة الآخر.
شمل هذا الانتصار الذي حقّقه الجيش تحديد الحدود اللبنانية في أراضٍ كان النظام السوري يرفض دائماً الدخول في أيّ مفاوضات جدّية في شأنها. إنّه انتصار حقّقته المؤسسة العسكرية بدعم من كلّ اللبنانيين الشرفاء، على رأسهم رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري الذي رافق الجنود والضباط إلى أرض المعركة.
كان على لبنان، من وجهة نظر الحزب، التفاوض مع النظام السوري وإقامة علاقات طبيعية معه متجاهلاً كل الجرائم التي ارتكبها هذا النظام في حقّ لبنان واللبنانيين. تشمل الجرائم استمرار احتجاز مواطنين لبنانيين في السجون السورية. كان الأمين العام لـ«حزب الله» السيّد حسن نصرالله يدعو إلى التفاوض «من فوق الطاولة» مع النظام السوري من أجل استعادة العسكريين الأسرى لدى «داعش» والذين يبدو أنّه جرت تصفيتهم قبل فترة طويلة، قبل ما يزيد على عامين.
جلب «حزب الله» الحرب إلى داخل لبنان بحجة أنّه يقاتل «داعش» والتكفيريين. هناك لبنانيون سذّج صدّقوا أنّه لولا «حزب الله» لكان «داعش» في جونيه، في حين أن الحقيقة المرّة تتمثّل في أن «حزب الله» بشراكة مع النظام السوري يمنع الجيش من الاقتصاص من «داعش» ومعاقبته على إعدام
العسكريين اللبنانيين بعدما منع الحكومة اللبنانية، في مرحلة معيّنة، من التفاوض على إطلاق هؤلاء. في الوقت ذاته، نرى النظام السوري والحزب اللبناني الذي ليس سوى لواء في «الحرس الثوري» الإيراني، يعقدان صفقات مع «النصرة» و«داعش» في ظروف أقلّ ما يُمكن أن توصف به أنّها مشبوهة.
هل كثير على الجيش أن يكون القوّة المسلحة الوحيدة على الأرض اللبنانية، وأن يُساعد في نهوض مؤسسات الدولة في مرحلة يحتاج فيها لبنان إلى حماية نفسه من التطورات ذات الطابع المصيري التي يشهدها الشرق الأوسط؟
الجواب، بكل بساطة أن الحرب التي يشنّها «حزب الله» على لبنان مستمرّة. هذه حرب طويلة تستهدف كلّ مؤسسة من مؤسسات الدولة تحت شعار «المقاومة». يعني هذا الشعار بصراحة، ليس بعدها صراحة، أنّ لبنان يجب أن يكون تحت الوصاية الإيرانية بعد تخلّصه من الوصاية السورية في العام 2005 بعد أسابيع قليلة من اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه.
بعد تمثيلية جرود عرسال التي كانت تقضي بأن تقدّم قوى إقليمية معروفة هدية إلى «حزب الله» ومن خلاله إلى إيران، جاء دور جرود رأس بعلبك حيث كان «داعش». استطاع الجيش الانتهاء من المطلوب منه. تحقّق انتصار فعلي على «داعش». لكن المطلوب كان أن يظهر «حزب الله»، مع الجيش التابع للنظام السوري، كشريكين في معركة لا علاقة لهما بها من قريب أو بعيد.
منذ خروج المقاتلين الفلسطينيين من لبنان في مثل هذه الأيّام من صيف العام 1982، هناك استماتة لدى النظام السوري من أجل منع الجيش من أن تقوم له قيامة. سمح حافظ الأسد بدخول عناصر من «الحرس الثوري» الإيراني، انطلاقاً من الأراضي السورية، كي يكون هناك سلاح آخر على الأرض اللبنانية غير سلاح الشرعية اللبنانية. لم يكن اغتيال النظام السوري للرئيس بشير الجميل في الرابع عشر من أيلول 1982 غير محاولة لمنع قيام الدولة اللبنانية والخلاص نهائياً من أيّ سلاح ميليشيوي يرث السلاح الفلسطيني الذي جلب كلّ أنواع الويلات على البلد.
صحيح أن شخص بشير الجميّل يمكن أن يكون موضع نقاش طويل، خصوصاً في ضوء ظروف انتخابه رئيساً، لكن الصحيح أيضاً أن التخلّص منه كان لسبب واحد هو أنّه كان قادراً في مرحلة معيّنة على إعادة الاعتبار إلى الدولة اللبنانية ومؤسساتها، على رأسها الجيش.
ما كان مشروعاً للنظام السوري قام على تسليح كلّ أنواع الميليشيات الطائفية في لبنان، فضلاً عن التنظيمات الفلسطينية من أجل تفتيت مؤسسات الدولة، صار مع مرور الزمن مشروعاً إيرانياً. حدث هذا التحوّل على مراحل وصولاً إلى إصرار «حزب الله» على أنّه شريك للجيش في معركة جرود رأس بعلبك على الرغم من نفي الناطق الرسمي باسم المؤسسة العسكرية المتكرّر لذلك.
هناك حزن ليس بعده حزن على كلّ ضابط وجندي لبناني سقط في معارك الجرود. هذا ليس وقت المزايدة على أهالي الشهداء، الذين بقوا متمسكين إلى اللحظة الأخيرة ببقايا أمل بأن تكون هناك وسيلة لإخراج أبنائهم من الأسر. هذا وقت التأكيد مرّة أخرى أن لا أمل في صمود لبنان في وجه العاصفة التي يتعرّض لها الشرق الأوسط كلّه ما دام هناك شيء اسمه «مقاومة». هناك مقاومة وحيدة تستأهل من اللبنانيين كلّ دعمهم. إنّها مقاومة الحرب التي يشنّها «حزب الله» على لبنان ومؤسساته من أجل تهجير أكبر عدد من أبنائه ونشر البؤس في كل قرية ومدينة ومنطقة من المناطق اللبنانية وتحويل البلد مستعمرة إيرانية.
بدأت نهاية الدولة اللبنانية مع توقيع اتفاق القاهرة في العام 1969 مع منظمة التحرير الفلسطينية. هناك حرب على لبنان منذ ذلك التاريخ. تناوب على إدارة الحرب عدد لا بأس به من الأطراف الخارجية على رأسها النظام السوري الذي لا يزال يحشر نفسه في كلّ موضوع يُمكن أن يساهم في الإساءة إلى مؤسسات الدولة اللبنانية. لا تزال على أرض لبنان، بسبب وجود «حزب الله» ونفوذه الطاغيّ وسلاحه الميليشيوي، فصائل فلسطينية مسلّحة في المخيمات. لا تزال هناك قواعد لمنظمات فلسطينية تابعة للنظام السوري في قوسايا، في البقاع، وفي الناعمة بين بيروت وصيدا.
أما آن الوقت لوقف الحرب التي يتعرّض لها لبنان منذ نصف قرن عقاباً على قراره الشجاع برفض المشاركة في حرب 1967 التي انتهت باحتلال إسرائيل للجولان والضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، وسيناء؟ هل جاء دور العقاب الإيراني للبنان بعدما تناوب على معاقبته عدد لا بأس به من العرب، في مقدّمهم النظام السوري… وإسرائيل طبعاً؟