نسمع ونقرأ لمجموعة من الشخصيات التي يعتمدها “حزب اللّه” لمخاطبة النخب السياسية والصحافية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية.
تعمل هذه الشخصيات على خلق سردية تاريخية/ثقافية إيجابية حول عقيدة ومشروع الحزب وخاصةً سلاحه، أي تعمل على تقديمه بشكلٍ “مُفَلتر” يتناسب مع هذه الشريحة من اللبنانيين.
ومن أخطر الأفكار اعتبار أن سلاح “حزب اللّه” بالنسبة للمكوّن الشيعي له بُعد وجودي، والمطالبة بالتخلّي عنه تُشكل تهديداً وجودياً لهم. ولذلك يقترحون أن تدخل المكوّنات اللبنانية المختلفة في حوار ونقاش مُعمّق وشفاف، وليطرح كلّ مكوّن هواجسه ويحصل على تطمينات من الطرف الآخر.
أصحاب هذه المقاربات يقولون بشكل مباشر إنّ السلاح يحمي الشيعة ولبنان من الاعتداءات الإسرائيلية. لكن يقولون أيضاً همساً وتلميحاً ومواربةً وأحياناً بقولٍ لا لبس فيه إنّ هذا السلاح يحمي مكانة المُكوّن الشيعي ودوره في النظام السياسي.
منذ اليوم التالي لانتهاء حرب تموز 2006 وإلى اليوم السابق لفتح “حزب اللّه” جبهة الجنوب دعماً لغزّة، كانت سرديتهم ترتكز على أنّ سلاح “الحزب” هو الرادع الوحيد للعدوانية الإسرائيلية تجاه لبنان، والحافظ لأمان المواطن الشيعي المقيم على الحدود مع إسرائيل.
لكن هذه الحرب أثبتت أنّ الجسم العسكري والأمني لـ “حزب اللّه” كان كياناً متهالكاً تنخره المخابرات الإسرائيلية منذ سنواتٍ بعيدة. كما أنّ الأمان الذي كان يشعر به المواطن الشيعي الجنوبي لم يكن بفعل ميزان القوى الذي فرضه “حزب اللّه” وسلاحه مع إسرائيل كما كانت تقول حبكتهم، بل نتيجة معادلاتٍ دولية تلاقت حول القرار 1701. وحين انقلب هذا السلاح على هذه المعادلات في 8 تشرين الأول 2023 تظهّرت هشاشة الحزب أمنياً وعسكرياً.
أصبح جلياً أنّ هذه السردية حول الردع سقطت، وسقطت معها الأفكار عن العلاقة الوجودية بين الشيعة والسلاح. لا بل يمكن القول إنّ الاستمرار بخيار التمسّك بالسلاح أصبح هو العامل الذي يحمل تهديداً وجودياً للشيعة بعد الذي شهدناه من تشريدٍ ودمارٍ شاملٍ لضيعنا بفعل خيارٍ انتحاريّ من الإيراني صاحب الإمرة على هذا السلاح.
هذا الخيار حمل للشيعة نزوحَ أكثر من مليون شخص وتدمير عشرات القرى بشكلٍ كاملٍ. وقبل السؤال عمّن سيعيد الإعمار، هناك قلق كبير ينتاب أهالي القُرى الحدودية بشأن العودة ومن سعي إسرائيل لتكريس منطقة عازلة خالية من العمران عند الحدود الجنوبية.
أما الجزء الثاني الذي يطرح الحوار للوصول إلى تقديم تطمينات للآخرين وإزالة هواجسهم حول السلاح، فهو أمر يضع المكوّنات الأخرى في موقع تستجدي فيه التسامح من الطرف المُسلّح، وعليها أن تشعر بامتنانٍ دائمٍ تجاهه.
هذا المنطق لا يبني دولة ويؤسس لتوتراتٍ دائمة. على الجميع التسليم بأنّ الدستور اللبناني هو الحافظ لحقوق جميع المكوّنات في النظام السياسي. كما أنّ العلاقة في ما بينها يجب أن تقوم على مبدأ الشراكة الحرّة والمتوازنة بعيداً من منطق الكسر والغلبة، وقطعاً من دون مِنّة من مكوّن على مُكوّن آخر.
بعد الضربة القاسية التي أصابت “حزب اللّه” وقياداته، بدأ يتبلور خطاب تخويفي للمكوّن الشيعي من أنّ هناك من يسعى لكسرهم وتهديد دورهم. نعم، قد يكون هناك كسرٌ لطرفٍ ما، لكنه للنفوذ الإيراني في لبنان وليس للشيعة.
لإيران سلاحٌ يُورّط الشيعة في حروبٍ لا ناقة ولا جمل لهم فيها. أما شيعة لبنان فلهم دولة ترعاهم، ودستور يحفظ لهم دورهم، وجيش سوف يضمن أمنهم وأمن جميع المواطنين من الجنوب إلى كل لبنان.