في العام 1982 كانت اسرائيل تستعد لغزو لبنان وكان العديد من العواصم على معرفة بالنوايا الاسرائيلية، ولذلك أصدر رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات تعليماته الى القوى الفلسطينية التابعة له بعدم القيام بأي أعمال امنية تجاه اسرائيل، بهدف عدم منحها ذريعة للقيام بالاجتياح.
لكن كان للرئيس العراقي صدام حسين رأي آخر، ذلك ان العراق الذي كان يخوض حرباً كبيرة مع ايران التي اصبحت دولة دينية قبل بضعة سنوات، كان يراهن على الحصار العسكري الذي كانت تعيشه ايران بسبب عدوانها للولايات المتحدة الاميركية، وبالتالي فإنّ صدام حسين كان يخشى من تدخل اسرائيلي ما من خلال السوق السوداء لتعويض النقص الذي يعانيه الجيش الايراني لترسانة سلاحه الاميركي الصنع. لذلك تبرّع صدام حسين لتوفير العذر المطلوب لاسرائيل لشن حربها على لبنان من خلال محاولة اغتيال السفير الاسرائيلي في لندن شلومو ارغوف، والتي تولى تنفيذها ابو نضال الذي كان يقيم تحت حماية المخابرات العراقية في بغداد. امّا مناسبة هذا الكلام اليوم، فهو للاشارة الى ان لبنان يدفع في العديد من الاحيان فواتير تصفية الحسابات الاقليمية، خصوصاً عندما تبلغ التعقيدات الدولية ذروتها، كما هو حاصل اليوم. وهذه الاشارة لا تعني ابداً انّ هنالك استعدادات حاصلة للذهاب الى حرب في لبنان شبيهة بما حصل في العام 1982.
لكن للصراعات والحروب أوجهاً اخرى عن المواجهات العسكرية، وتكون احياناً اشدّ ايلاماً من القصف والحديد والنار.
في الواقع، إن لبنان يرزح تحت وطأة «حرب اقتصادية» ينذر تفاقمها بويلات واهوال. فالشرق الاوسط الذي ما يزال ينتظر المفاوضات الاميركية – الايرانية يستعد في الوقت عينه للخارطة الجيوسياسية الجديدة التي تعمل واشنطن على رسمها بالتفاهم مع قوى اخرى مثل روسيا، وهو ما يعني ان شبكة المصالح واسعة وكبيرة، والساحة اللبنانية تشكل احدى الساحات التي ستتأثر بالتداعيات المتوقعة.
ايران ما تزال تُبدي رفضها لأي تعديل للاتفاق النووي يلحظ ملفي الصواريخ البالستية وخارطة نفوذها في المنطقة، فيما الادارة الاميركية تتحدث عن مهلة زمنية لن تتجاوزها قبل نقل كامل اهتمامها الى ملف احتواء التمدد الصيني على الرقعة الدولية.
في الواقع بدأت الاصوات في الداخل الاميركي ترتفع حيال ما اعتبروه مرونة من قبل ادارة بايدن بوجه ايران. صحيح انّ هذه الاصوات هي محسوبة على اللوبي المؤيد لاسرائيل، لكنها قابلة لأن تتوسع وتصبح اكبر.
وثمة تواصل اميركي – ايراني يحصل من خلال سلطنة عمان، لكنه لم يثمر بعد عن شيء ملموس، وسط تعدد التكهنات، فهناك من يعتقد ان الاقتصاد الايراني الصعب يُلزم طهران بالذهاب الى تسوية. لكن قد يكون جناح المحافظين لا يريد تخفيف العقوبات قبل الانتخابات الرئاسية الايرانية كي لا يستفيد الرئيس روحاني منها.
وفي استطلاع أجراه المجلس الاوروبي للعلاقات الخارجية، تبين ان غالبية اوروبية تراجعت ثقتها بالقيادة الاميركية، وأنه لا يمكن الاعتماد على واشنطن للدفاع عن اوروبا. وسجل الاستطلاع نسبة 66 % من الفرنسيين، 71 % من الالمان و81 % من البريطانيين. وهذا ما دفعهم للاستنتاج بأنّ الرأي العام الاوروبي يفضّل البقاء على الحياد في الصراع ما بين الولايات المتحدة الاميركية والصين وروسيا. وهذا ما يشكل حافزاً أمام الادارة الاميركية لإبراز بعض الحزم على ساحة الشرق الاوسط وسط التجاذبات الحاصلة الآن.
وما من شك ان لبنان يكاد يختنق جراء ازماته الحادة والخطرة بسبب كل هذه التعقيدات.
الانهيار الاقتصادي والمالي يشتد، وهو مرشح للمزيد من التفاقم وسط ازمة سياسية حادة بسبب الاخفاق في تأليف حكومة تخضع للمواصفات التي وضعها الغربيون، وفي جوهرها، إضعاف تأثير «حزب الله» على الادارة الرسمية، علماً أنه يُدرك انّ هذا المسار سينتهي بالمطالبة بحل لسلاحه.
وهو يرفض التسليم بذلك تحت اي ظرف كان، وتدرك طهران ايضا ان ملف نفوذها في الشرق الاوسط الذي تسعى واشنطن لإلحاقه في المفاوضات يتضمن جزءاً اساسياً عن «حزب الله» وسلاحه في لبنان. لذلك، هي ترفض ادخال اي تعديلات على ملفها النووي. ومعها، فإنّ الانهيار الاقتصادي والمالي الذي يئنّ تحته لبنان، يقرأه «حزب الله» انه بهدف ترويضه عبر تأليب بيئته الحاضنة عليه. وهو في الوقت نفسه يراقب بكثير من التمعّن التبدلات التي يمكن ان تصدر عن حلفائه، او العروض التي قد يقدمها هؤلاء للانقلاب عليه تحت الضغط الحاصل.
في المقابل، وسّعت ايران دائرة مساعدتها لـ»حزب الله»، وهذا ما سمح لقيادة الحزب بتوزيع حوالى مئة الف بطاقة تموينية لعائلات شيعية لشراء الحاجيات الاساسية بأسعار مخفضة.
وهو ما يعني ان «حزب الله» يستعد لمواجهة طويلة مرشحة لأن تشتد قساوتها. وهو ما يعني ايضا انّ العوائق الحقيقية امام الولادة الحكومية قد لا تزول قريباً. وهو ما يعني ايضاً وايضاً أن الفوضى مرشحة للتصاعد وان زوال الجمهورية الثانية او جمهورية الطائف سيكون هو النتيجة الحتمية لصالح جمهورية ثالثة لم يخف «حزب الله» مشاعره بالذهاب اليها من خلال مؤتمر تأسيسي يقوم على اساس المثالثة، مع وضع «الدسم» في حصة الثلث الشيعي. وهو ما دعا البابا فرنسيس للحديث عن خطر على الكيان اللبناني بعد عودته من زيارة تاريخية الى العراق حيث التقى المرجع الشيعي الابرز السيد علي السيستاني، والذي لا يتوافق مع السياسة الايرانية.
في المقابل، إن الاشارات الصادرة عن العواصم الغربية تبدي رفضها النهائي بالمَسّ بدستور الطائف، ولو كان الثمن سلاح «حزب الله».
ثمة واقعتان تاريخيتان لا بد من الاخذ بهما، الاولى في العام 1974 اي قبل اندلاع الحرب اللبنانية حين زار السفير السوفياتي في لبنان يومها سارفار عظيموف الرئيس السابق شارل حلو مودعاً قبل انتقاله الى مقر عمله الجديد في باكستان.
يومها، همس عظيموف في أذن الرئيس اللبناني السابق انه يترك لبنان وهو شديد القلق عليه. فثمة إخبار عن نزاع دموي قريب سيحصل، وأن الثمن سيكون في النهاية الصيغة السياسية التي نشأ على اساسها لبنان عام 1943، وانّ هذا يدعوه للخوف على مصير التعددية الدينية الإتنية التي يتفرد بها لبنان في الشرق الاوسط، حتى ولو كان هو ينتمي الى حزب لا يعترف بالاديان.
والواقعة الثانية حصلت في العام 1981 خلال ما عُرف بحرب زحلة، يومها ردّت سوريا على إسقاط مروحية عسكرية لها كانت تقوم بقصف الطريق الوحيد المتبقي الذي يربط زحلة بصنين.
وقتذاك، طلب رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس السيناتور جيسي هيلمز ومعه السيناتور جو بايدن (الرئيس الاميركي الحالي) من الرئيس الاميركي يومها رونالد ريغان بالعمل على وقف التمادي الذي يمارسه الجيش السوري في لبنان ضد المسيحيين ما يهدد بقاءهم، والعمل على وضع لبنان تحت المظلة الدولية، والعمل على سحب الجيش السوري من لبنان لأنّ ما يحصل يهدد التعددية التي يتميز بها لبنان عن سائر دول المنطقة.