Site icon IMLebanon

خفايا خطة «الإتحاد الكردي» للإمساك بالحسكة

من الذي بدأ إطلاق النار في الحسكة؟ الإجابة عن هذا السؤال تكشف جزءاً كبيراً من خلفيات ما يحدث فيها.

الطرفان يتبادلان الاتهامات عن مسؤولية ما حصل. حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي (PYD) يحمّل دمشق المسؤولية، تنفيذاً لطلب تركي ـ إيراني منها بفتح اشتباك مع اكراد سوريا ينهي مناطق نفوذهم فيها. تنفي دمشق ذلك، وتغمز من قناة ان المسبّب لحرب الحسكة هو تضخّم النزعة الانفصالية عند PYD السوري المرتبط بـ«حزب العمال الكردستاني» الانفصالي، الامر الذي استوجب الرد بسلاح الطيران لإيصال رسالة اليه مفادها أنه ممنوع عليه خرق الخطوط الحمر.

من ناحية عسكرية صرفة يصعب تصديق رواية PYD عن انّ دمشق بادرت الى فتح النار على الاكراد، ذلك انّ موازين القوى العسكرية في الحسكة ومعظم مناطق النفوذ الكردي السورية، تميل بنحو كبير لمصلحة «وحدات الحماية الكردية».

ولقد علمت «الجمهورية»، من مصادر متقاطعة، برواية تكشف جانباً مهماً من خفايا ما يحدث في الحسكة

تفيد هذه المعلومات انه قبل ايام من بدء احداث الحسكة وصل الى القامشلي زعيم الـPYD صالح مسلم آتياً من باريس – مقر إقامته شبه الدائمة – وعقد اجتماعات مع قيادات الادارة المدنية الكردية فيها. وشاع حينها انّ زيارة مسلم تتعلق بإجراء تقويم على الارض لمرحلة ما بعد استعادة منبج من «داعش».

ولكن راهناً تمّ تعديل قراءة الزيارة؛ وبموجبه ينظر بعناية الى انها حصلت بين توقيتين: بعد أيام من نجاح «قوات سوريا الديموقراطية» في السيطرة على منبج، وقبَيل أيام من بدء معركة الحسكة، ما يؤشر الى انّ مسلم حمل معه لكرد سوريا «أمر عمليات» ببدء معركة للسيطرة على الحسكة بكاملها، وبالتالي إنهاء مرحلة الشراكة او «المساكنة» العسكرية فيها بين قوات النظام السوري والأكراد.

تتحدث هذه المعلومات عن تسريبات عن سبب زيارة مسلم للقامشلي وصلت الى كردستان العراق، وذلك قبل ان يغادرها الاخير. ويفسر هذا سبب إقفال سلطة المعبر الوحيد بين سوريا وكردستان العراق في وجه مسلم، بناء على أوامر من البرزاني نفسه.

وعلى رغم انّ مسلم راجع مكتب البرزاني لتأمين فتحه ليتمكن من مغادرة سوريا، الّا انّ الاستجابة لطلبه لم تحدث بسلاسة. وتكشف متابعة حركة مسلم بعد ذلك، أنه لم يعد الى باريس، بل توجّه الى جنوب افريقيا حيث مكث فيها اياماً عدة، وظل سبب زيارته لجوهنسبورغ مجهولاً.

لماذا الحسكة؟

ومن وجهة نظر دمشق، فإنّ كلمة السر في شأن ما يجري في الحسكة موجودة عند مسلم، وتلفت النظر الى تصريحاته التي نعى فيها الوساطة الروسية على نحو يظهر أنّ قرار PYD بفتح حرب الحسكة مُتَّخذ مسبقاً.

وليس معروفاً حتى الآن ما اذا كان هذا القرار منسّقاً مع الولايات المتحدة الاميركية أم أنّ مسلم يريد «سرقة» هدف سيطرته على الحسكة، من بين ثنايا لحظة حاجة واشنطن لأكراد سوريا في هذه المرحلة لأنهم يؤدون وظيفة جيشها البري في هجومها المستمر لإخراج «داعش» من مثلّث منبج – الباب – الرقة.

والواقع انّ انتقاء الحسكة لتكون هي اول ميدان في بدء معركة الاكراد لفرض مشروعهم في سوريا على اي طاولة مفاوضات سورية مقبلة، لم يأتِ من فراغ؛ فالحسكة تعتبر المركز الاداري في محافظتها، وفيها توجد كل مؤسسات الاحوال الشخصية السورية الرسمية.

وبالنسبة الى حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي تعتبر هذه السمة الإدارية للحسكة اكثر من مهمة، نظراً لأنّ مشروعه لكرد سوريا لم يرقَ حتى هذه اللحظة الى مطلب الانفصال، بل الحكم الذاتي الاداري او ما يسمّى «الحل الفيدرالي» ضمن الدولة السورية.

بمعنى آخر، فإنّ مطلبهم الراهن هو منح إقليم للكرد في سوريا، يمارسون فيه سلطة ادارة شؤونهم الثقافية وأحوالهم الشخصية وأنماط حياتهم فيه، وذلك بنحو مستقل ووفق شروطهم. وضمن هذا المشروع، تعتبر سيطرة الكرد على الحسكة المدخل للسيطرة على العاصمة الإدارية في مناطق الكرد المنوي ربط أجزائها بعضها ببعض وتحويلها إقليماً فيدرالياً مستقلاً ادارياً.

وحتى الآن، فإنّ الحل الفيدرالي كما يطرحه الـ PYD، يعني «حكم الكرد لأنفسهم بأنفسهم» وليس الخروج عن السلطة السورية. ولكن في نظر مراقبين انّ هذا المشروع يضمر التمرحل للوصول تدريجاً الى ما ناله الاكراد في كردستان العراق، حيث انّ الاخير لا يزال وفق النظام السياسي العراقي مرتبطاً ببغداد، ولكن موازين القوى العراقية الداخلية سمحت له بأن يتفلّت في اتجاه نيل استقلال واقعي وليس قانونياً.

ومنذ عامين صاغت الادارة المدنية للكرد في سوريا التي يسيطر عليها PYD مسودة دستور لإدارة حياتهم في مناطق نفوذهم. صحيح انه لم يُعلن حتى الآن، لكنّ بنوده طبّقت فعلياً على مجتمع الكرد الواقع في مناطق سيطرة الادارة المدنية الكردية والأساييش (الامن الداخلي التابع للإدارة) ووحدات الحماية الكردية.

ويعمّق هذا الدستور البعد العلماني للحياة العامة الكردية، وعلى عكس ما يسمح به القانون السوري، فإنه يحظّر على المواطن السوري القاطن في مناطق الادارة المدنية للكرد الزواج من أكثر من امرأة.

واللافت انّ هذا الدستور يطبّق بمفعول رجعي، اي انّ على الشخص المتزوج من اكثر من امرأة المثول امام بلديات الادارة الكردية المدنية، وتصحيح تجاوزه، وانتقاء واحدة لتبقى على ذمته من بين زوجاته المقترن بهنّ. وتفيد روحية تطبيق الدستور بمفعول رجعي انّ مشروع الكرد يهدف الى مسح الذاكرة غير الكردية لمناطقه، وذلك رداً على ما يعتبرونه انّ النظام السوري كان مسح ذاكرتها الكردية لمصلحة تعريبها!

اضف الى ذلك انّ تطبيقات مسودة الدستور استبدلت مناهج التعليم العربية بمناهج كردية وغَيّرت مادة التاريخ.

كرد سوريا وواشنطن

داخل PYD يوجد هاجس دائم، وهو أن يتخلّى الاميركيون عن أكراد سوريا بعد الانتهاء من استخدامهم عسكرياً مثلما فعلوا مع أكراد العراق عندما تخلوا عنهم خلال استخدام صدام حسين السلاح الكيماوي ضدهم عام 1988.

وينقل عن صالح مسلم قوله في كواليسه: «تحالفنا مع الأميركان إكراهي وليس اختيارياً». ويؤكّد ان لا ضمانات اميركية بإعطاء كرد سوريا اكثر من الحماية في مواجهة «داعش» في مقابل استخدامهم كجيش بري للأميركيين.

وهذا ما يفسر أنّ اكراد سوريا يحاولون استغلال حاجة واشنطن العسكرية لهم في هذه اللحظة، لرسم ضمانات ميدانية على الارض تفيد مشروعهم الفيدرالي الاداري في سوريا الجديدة.

على انّ حرب كوباني التي حدثت منذ عامين شكّلت لدى الـ PYD نقطة تحول لمصلحة تعاظم رهانهم على الحماية الاميركية؛ فآنذاك حتى قوات «البشمركة» التابعة لكردستان العراق وقفت تنظر من بعد لاحتمال ذبح كرد عين عرب.

فيما الجيش السوري لم يكن بمقدوره الدفاع عنهم، وحدها واشنطن فعلت ذلك بقوة، وأرغمت الرئيس التركي رجب طيب اردوغان حينها على أن يسمح لألفي مقاتل من قوات حزب العمال الكردستاني بالعبور من شمال جبل قنديل مسافة ٤٠٠ كلم داخل الاراضي التركية الى كوباني في سوريا للدفاع عنها. وأذعن اردوغان آنذاك للضغط الاميركي، على رغم انّ هؤلاء المقاتلين الاكراد هم ذاتهم من يقاتل جيشه في الاناضول.

ومنذ تلك الفترة نشأ تحالف رفقة السلاح في سوريا بين قوات التحالف الدولي وكرد سوريا، والمهمة الاميركية الاهم التي تنتظرهم الآن بعد منبج هي إخراج «داعش» من الرقة.

الوساطة الروسية

لم ينجح الجنرال الروسي بإتمام مهمة إبرام وساطة بين الكرد والنظام في الحسكة. وبَدا واضحاً أنّ جلّ ما يمكنه فعله هو تنظيم أوقات هدنة بين جولات القتال التي ستستمر فيها حتى تحقيق هدف الـPYD بإخضاع الحسكة له بكاملها.

وواضح أنّ وحدات الحماية الكردية تحاول شراء الوقت لتحقيق هدفها، بدليل انه في الوقت الذي كان وفد كردي يتوجّه الى قاعدة حميميم للقاء القيادة الروسية بغية التوصّل لتسوية في الحسكة، كان الاساييش يوزّع مناشير تدعو المقاتلين التابعين للنظام في الحسكة الى تسليم سلاحهم والاستسلام.

وفي نظرة أوسع الى احداث الحسكة كما تراها موسكو وواشنطن، فإنه يتمّ وضعها استراتيجياً ضمن ثلاثة ابعاد:

اولاً- تمثّل السيطرة على الحسكة داخل مشروع أكراد سوريا، ترميزاً مهماً لمطلب إمساكهم بسلطة ادارة شؤون مناطقهم الثقافية والحياتية والاقتصادية بأنفسهم، وذلك ضمن هدف الحل الفيدرالي الذي يطرحونه (أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم ضمن الدولة السورية الفيدرالية).

وكان واضحاً أنّ الـPYD خلال مفاوضاته لوقف القتال في الحسكة طرح مطالب ادارية أكثر ممّا هي سياسية؛ وركّز على ان يترك النظام ادارتها الامنية والحياتية له.

ثانياً – دولياً، إنّ للحسكة موقع «العقدة» داخل خريطة تصدير كل نفط وغاز شمال سوريا، وهي توازي لهذه الناحية موقع الموصل التي تشكل صنبورة المرور في العراق لكل النفط الكردي العراقي وشمال بغداد.

ثالثاً – يوجد للحسكة اهمية استراتيجية على مستوى الحرب الاميركية الاوسع ضد «داعش» في الميدانين السوري والعراقي معاً، إذ انّ السيطرة عليها تشكل استكمالاً للسيطرة على سنجار وتلعفر، لجهة أنها تخدم إتمام هدف الطريق بين عاصمتي «داعش» في الرقة السورية والموصل العراقية، وهما حربان تستعد لهما واشنطن حالياً.