الولايات المتحدة الأميركية بلد شاسع المساحة، وفارق الوقت في البلد الواحد بين الشاطئ الشرقي والشاطئ الغربي يقاس بالساعات. نحو ثلاث ساعات، فهو بلد معقّد من حيث المساحة. كذلك هو بلد معقّد من الناحية الديموغرافية، وهو خليط من الأعراق والأجناس، ولكل منها مجتمعها الخاص ولكنها تسبح جميعا في خضم المجتمع الأميركي الأعظم… فمن الطبيعي أن يكون النظام السياسي معقّد أيضا، ويختلف في ديموقراطيته عن أي بلد آخر في العالم… أليس من الغريب أن يفوز مرشح بغالبية من أصوات الناخبين ويخسر، ثم يفوز بالرئاسة من يحوز على غالبية أصوات ما يسمّى ب المجمع الانتخابي؟ وهو أمر تكرر أكثر من مرة سابقا، وهذه المرة أيضا، إذ حازت هيلاري كلينتون على غالبية من أصوات المقترعين على الصعيد الشعبي، ولكن دونالد ترامب هو الذي فاز بالرئاسة لنيله غالبية أصوات المجمع!
الولايات المتحدة الأميركية هي دولة ديموقراطية يحكمها الدستور والقانون والمؤسسات… ولكن في خلفية كل ذلك مراكز لصنع القرار من وراء الستار، ولها أساليبها الخاصة لتمريره من خلال واجهة الحكم الدستورية المتمثلة بالرئاسة ومجلسي الكونغرس لتحقيق مصالحها التي تدمجها بالمصلحة الأميركية العليا. وعلى رأس هذه المراكز المجمع العسكري والصناعات الثقيلة والاحتياطي الفدرالي المركزي ولوبي رجال المال والأعمال والاعلام والهيمنة على النظام المصرفي العالمي، ووسائل الاتصال في العالم، والتحكم بادارة كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، اضافة الى التحكم بقرار أقوى قوة عسكرية في العالم وفي التاريخ.
في موازاة ذلك، يمثل اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة، أحد أعظم مراكز الضغط هناك. وخطورته وتعاظم نفوذه يتمثلان في أنه متغلغل في المفاصل الحساسة في الادارة الحكومية ومجالسها الدستورية، وفي المجمع العسكري والصناعي، وأجهزة الاعلام على اختلافها ومؤسسات استطلاع الرأي، بما يجعله قادرا في كثير من الأحيان على طبخ الرأي وصناعته، وليس فقط استطلاعه! وغالبا ما تتقاطع مصالح مراكز الضغط الأخرى مع مصلحة اللوبي اليهودي. أما عندما تتباين أو تتناقض، فعندها تحدث تحولات وتغيرات مثيرة ومفاجئة وغير متوقعة قد تصبّ في هذا الاتجاه أو ذاك، أو في اتجاه ثالث مختلف تماما! وغالبا ما يكون التقاطع عند مصلحة مركزية تقضي بابقاء مصانع السلاح ومصانع العتاد الثقيل شغالة وفي دوران دائم وازدهار مستمر…
لتحقيق هذا الهدف، كانت استراتيجية الابقاء على مراكز التوتر والصراعات في العالم، وبث الفتن وإشعال الحروب، على مدار الكوكب. وذلك يقتضي أن يكون هناك دائما عدو مركزي تحاربه أميركا. وعندما انهارت الامبراطورية السوفياتية الشيوعية، تحوّل التوجه الى شيطنة الاسلام بوصفه يحظى بانتشار عالمي. وأي توجه داخل أميركا أو في العالم نحو السلام وتصفية النزاعات يتم النظر اليه من قبل الكارتل الأميركي أو اللوبي اليهودي على انه الخطر الأعظم الذي يهددهما في الداخل وفي العالم…
دونالد ترامب فاز بخلطة – معقّدة أيضا! – من العنصرية التي تنطوي عضويا على اللاسامية بحسب التعبير الصهيوني، وبخطاب بالغ في دغدغة مشاعر الصهيونية واسرائيل… ولكنه في المقابل أظهر نزعة تصالحية ورغبة تعاون مع روسيا، وهي العدو المركزي في نظر الكارتل الصناعي والعسكري الأميركي. وكل شيء يتوقف عند انتقال ترامب من النظري الى العملي. واذا اتجه فعلا نحو روسيا ايجابا فذلك سيخلق تقاطعا مع اللوبي الصهيوني الذي لا يريد لمنطقة الشرق الأوسط ان تهدأ لضرب عدوين: العرب وايران! واذا توجه ترامب للتعاون الوثيق مع روسيا، فسيتم العمل لاسقاطه بمختلف الوسائل المتاحة، ديموقراطيا، واذا تعذر ذلك فعن طريق ازالته من المسرح ومن… الحياة! وهذا له سوابق في التاريخ الأميركي، إذ عندما يتحوّل الرئيس الى عقبة في وجه الكارتل واللوبي، يتم اغتياله… بهذا المعنى حياة دونالد ترامب في خطر!