عندما تتكرَّس في سوريا مناطق النفوذ، ضمن 3 خيارات: التقسيم أو الفدرالية أو حرب المئة عام، سيذهب لبنان أيضاً إلى أحد هذه الخيارات اضطرارياً. فمنطقة النفوذ العلوية في سوريا (على امتداد الحدود مع لبنان) ستتلاحم مع منطقة النفوذ الشيعية في لبنان (على امتداد الحدود مع سوريا)، وتكوّنان عملياً منطقة نفوذ واحدة. عندئذٍ، سيكون لبنان 1920 قد سقط، والبقية تأتي!
لم يعد الكلام على رسم الخرائط في المنطقة مجرّد «خيال علمي» (Science fiction) أو مجرد أوهام تصيب القائلين بـ»نظرية المؤامرة». وقلائل هم الذين كانوا يرَوْن، منذ اللحظة الأولى، ما ستقود إليه مساراتُ «الربيع العربي» واقعياً، وبعيداً عن الشعارات التي تمّ إغراق الشارع بها.
ويبدو أنّ «وصفة سايكس- بيكو» تحمل عبارة «صلاحية الاستعمال 100 عام فقط»! فهل الوصفات التي يجري تحضيرها ستخدم 100 عام أخرى؟
السياسيون ورجال الاقتصاد العائدون من واشنطن في الأسابيع الأخيرة، بعد اطِّلاعهم على تحليلات العديد من الباحثين في مراكز الدراسات، يقولون إنهم سمعوا هذه المرَّة توقعاتٍ جديدة وأكثرَ دراماتيكية تجاه مستقبل الكيانات في الشرق الأوسط، ومنها لبنان.
يقول هؤلاء إنّ هناك اتجاهين تسلكهما الكيانات الشرق أوسطية، وتحديداً لبنان وسوريا والعراق، في الوقت الحاضر:
-1 الوقوع أكثر فأكثر في الحضن الإيراني والابتعاد عن المحور السعودي، وفق تفاهم إيران الضمني مع الولايات المتحدة في اتفاق فيينا، والقاضي بالاعتراف لها بنفوذ يمتدّ عبر العراق وسوريا وصولاً إلى لبنان.
-2 إستحالة عودة كلٍ من هذه الكيانات إلى واقعه السابق، والتأرجح بين خيارات الفدرالية والتقسيم والحرب التي لا نهاية لها.
وصحيحٌ أنّ لبنان ما زال يحتفظ بالمظلّة الدولية الضامنة لاستقراره، خلافاً لسوريا والعراق، ولكن، عندما تحين اللحظة المناسبة لرسم مستقبل لبنان، فإنّه لن يكون معزولاً، خصوصاً عن مستقبل سوريا. وعلى اللبنانيين أن يتأمّلوا جيداً ما يجري خارج حدودهم لتتّضح لهم الصورة في لبنان.
وفي الترجمة العملية، هناك توقعات بأن تتراجع تدريجاً بنية الدولة المركزية في لبنان، بتأثير من الكيان الذي أرساه «حزب الله» جغرافياً وسياسياً وعسكرياً وأمنياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً. ولكن، إذا بقيَ الحدّ الأدنى من الدولة المركزية، سيبقى لبنان في فلك النفوذ الإيراني. أي إنّ إيران ستستعيد الدور الذي اضطلعت به دمشق في لبنان لسنوات طويلة، وبالغطاء الدولي والعربي الشامل.
فالتوافق الأميركي – الإيراني سيُكرّس نفوذَ طهران على «الهلال الشيعي»، ويقلّص النفوذَ السعودي في الخليج العربي، مقابل وعدٍ للسعوديين بألّا يكون اليمن شوكةً في خاصرتهم.
ولذلك، لم يستغرب المحلِّلون ظاهرة الانسحاب الخليجي من لبنان، ولو تمَّت تحت عنوان الاعتراض على الموقف اللبناني. ويسأل هؤلاء: لطالما كان نهج الحكومة اللبنانية متعاطفاً مع «حزب الله» وإيران، فلماذا لم يكن السعوديون يردّون عليه في السابق بقراراتٍ عقابية؟
وفي تقدير البعض أنّ السعوديين ينسحبون من لبنان اليوم، ويسحبون يدهم من حلفائهم اللبنانيين كما سحبوا يدهم من المعارضة السورية، بعدما كانوا يعتبرون المعركة هناك معركتهم الخاصة. ولهذا الانسحاب تداعيات على مجمل المناخ الشرق أوسطي وتوازنات القوة.
وقبل أيام، رمى وزير الخارجية الأميركي جون كيري، للمرّة الأولى، بـ«كلمة السرّ» في سوق التداول: «تقسيم سوريا». لكنّ الأميركيين سارعوا إلى التخفيف من حجم الردود المستهجنة بإيضاح أنّ كلام كيري على استحالة عودة سوريا الموحَّدة لا يُعبِّر عن موقف داعمٍ للتقسيم، بل عن خيار ستقود إليه الأمور واقعياً.
ويشرح الأميركيون موقفهم: لو كانت واشنطن مع التقسيم لأتاحت سقوط الرئيس بشّار الأسد وتركت سوريا تتشرذَم مناطق صغيرة تتوزَّعها العشرات من القوى المتصارعة الدينية والمذهبية والعرقية والعقائدية.
ولكنها، لهذه الغاية، اضطرت في العام 2013، إلى إبرام اتفاق كيري- لافروف القاضي بتثبيت نفوذ الأسد إلى حين التسوية السياسية، بعد حلّ أزمة الملف الكيماوي السوري، فمنعت سقوط النظام دراماتيكياً، لا دفاعاً عنه، بل خوفاً من دخول سوريا في النفق المظلم.
لكنّ تبرير الأميركيين لاستمرار الأسد لا يقنع كثيراً، لأنّ عدم انهيار أحد الطرفين المتصارعين في سوريا، الأسد والمعارضة، وبينهما «داعش» وسائر الجماعات «الغامضة»، هو الذي يرشّح سوريا للدوران في حلقة مفرغة من العنف إلى ما لا نهاية، في حربٍ لا منتصر فيها ولا منهزم.
في أيّ حال، بعد توقيع اتفاق كيري- لافروف، كان فلاديمير بوتين يشرب نخبَ انتصارٍ حقّقه بإجبار الأميركيين على قبول استمرار الأسد حتى التسوية، أي إلى موعد غير محدّد. ففي يد الروس والإيرانيين والأسد تعطيل هذه التسوية لسنواتٍ وسنوات.
ومع أنّ موسكو هي الأشدّ رفضاً على الإطلاق لتقسيم سوريا، فإنها تخوض اليوم حرباً ستقود إلى ترسيم الحدود داخل الكيانات السورية. فالمعارك التي يخوضها النظام وحلفاؤه ترتدي طابع الحسم العسكري والديموغرافي. وفيما بات ممكناً أن يحتفظ الأسد بـ«سوريا المفيدة» (من الساحل إلى جنوب دمشق)، فمن المستحيل أن يستعيد الأسد سيطرته على سوريا.
بالنسبة إلى موسكو، إنّ قيام دويلات دينية وقومية ومذهبية في الشرق الأوسط سيُثير أحلام الانفصال لدى الشعوب المسلمة في روسيا الاتحادية. وبعد اتفاق كيري- لافروف، سعى بوتين إلى إقناع السعودية وتركيا بإقامة «تحالف الأضداد» في مواجهة التقسيم، بناءً على مصلحة مشتركة للدول الثلاث، ونجح في ذلك.
واليوم، إذ يطرح الروس فرضية قيام دولة فدرالية في سوريا، فإنهم لا يفعلون ذلك لرغبة في الذهاب نحو التقسيم، بل على العكس، هم يطرحون الفدرالية لعلها تكبح جماحَ الاتجاه السريع نحو تقسيم سوريا.
الفدرالية، وفق أهداف روسيا، تعني قيام دولة لامركزية سياسية بقيادة الأسد، يستمر فيها النفوذ الروسي، ويتمّ إرضاء المكوّنات المذهبية والقومية السورية باستقلال سياسي محلي. وفي اعتقاد موسكو أنّ حلاً من هذا النوع يُرضي الجميع: واشنطن وتركيا وإيران والسعودية.
لكنّ، الفدرالية ذاتها تحتاج إلى إبرام صفقة سياسية لا تبدو ظروفها متوافرة. وحتى التقسيم يحتاج إلى تسوية سياسية. وإذا استمرّ التعثّر السياسي، فهذا يعني أنّ سوريا ليست ذاهبة لا إلى التقسيم ولا الفدرالية، بل إلى حرب المئة عام بين جماعات تتوزَّع القرى والصحاري والزواريب، فلا تموت لتنهزم ولا تعيش لتنتصر!
وهكذا، فالجميع هم اليوم في الوقت الضائع، وقت تثبيت المواقع، خصوصاً في ظلّ انتظار سيِّد البيت الأبيض الآتي في الخريف المقبل، والذي سيتولّى على الأرجح قيادة الخطوات التنفيذية المرسومة لسوريا وسائر الشرق الأوسط في السنوات الأربع المقبلة.
ويتّفق معظم الباحثين على استحالة زوال الخطوط القائمة بين مناطق النفوذ في سوريا، ويتوقعون أن تلحق متغيّرات بالكيانات المجاورة. فالعراق مضى خطوات نحو التفكّك، قبل سوريا. وأما تركيا فتخشى على وحدتها إذا نشأ كيانان كرديان وآخر علوي على حدودها القائمة أساساً على خطٍّ وهمي داخل مناطق يتمتع فيها الأكراد والعلويون بحضور وازنٍ تاريخياً. وأما الأردن ولبنان فالنازحون السوريون يتكفّلون بجعل اهتزازاتهما الكيانية أكثر خطراً.
إذاً، التقسيم يتقدَّم كخيارٍ إقليمي خطَّطت له إسرائيل أساساً وتعمل له. لكنّ الولايات المتحدة تنقاد إليه بوصفه خياراً واقعياً، وروسيا ترضخ له بوصفه خياراً إجبارياً.
واعتماد الفدرالية هو أفضل ضمان لمنع الوصول الكيانات إلى التقسيم، ولكنّها لا تتحقّق إلّا بوجود إرادة للحل. وحتى التقسيم يبقى أفضل وأقلّ ثمناً من نهر الدماء والدموع المهدورة. فالبديل من اللافدرالية واللاتقسيم هو اللاسلام، ولسنواتٍ طويلة.
وإذا كان التقسيم هدفاً إسرائيلياً- والتقاتل الأهلي كذلك- فإسقاطهما يكون إما بدولة علمانية وإما بدولة فدرالية. فأيّ الخيارين هو الأقرب منالاً في المناخ الشرق أوسطي الملتهب؟
والسؤال المطروح في لبنان هو الذي ينطلق من مقال أخير نشرته «نيويورك تايمز»، ويتحدث عن 3 كيانات في سوريا: «كُردستان»، «عَلَويستان» و«سُنّيستان». فهل يمتلك أحدٌ جواباً عما سيكون عليه لبنان عندما تتلاحم عضوياً «عَلَويستان» السورية و«شيعيستان» اللبنانية؟