سياسة
فضل الله: من الحلول المتاحة أن نضع حداً للتوافقات بين الأطراف المؤثرة على سعر الفائدة، ونحدّد سقفاً للفوائد
ارتفاع معدلات الفوائد في لبنان يترك حروقاً واضحة في الاقتصاد الحقيقي. هذه «الحروق»، على حد وصف الاقتصادي إيلي يشوعي، لم تظهر اليوم بل قبل 25 سنة، أي منذ أن تقرر اعتماد سياسة الفائدة السخية لجذب الدولارات من الخارج، من أجل تمويل فاتورة الاستيراد المتعاظمة والاحتفاظ بموجودات مرتفعة بالعملات الأجنبية والمحافظة على سعر صرف ثابت لليرة في مقابل الدولار. أسفر ذلك عن نتيجة محددة: اقتصاد ضعيف مقابل عملة قوية. برأي يشوعي، إن هذه المعادلة تنطوي على عملية «تزوير» لإنقاذ «أنفسهم» وترك البلد يحترق. اما الحلول، فممكنة، وأحد أبرزها، «منع تضخّم الدين العام من خلال إجراء خفض متفق عليه وملحوظ على الفوائد»، وفق رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، عبدالحليم فضل الله.
منذ نحو سنتين، بدأ مصرف لبنان يتوسّع كثيراً في إجراء «الهندسات المالية» مع المصارف. الهدف المعلن هو استقطاب «الدولارات الطازجة» من الخارج، وامتصاصها من قبل مصرف لبنان للمحافظة على موجوداته المرتفعة منها. حينها، أي في عام 2016، كان أحد تبريرات مصرف لبنان لاختيار «الهندسات المالية» بدلاً من أدواته التقليدية، أنه متمسك بالحفاظ على استقرار معدلات الفوائد. انتقد صندوق النقد الدولي هذا الموقف، ودعاه إلى التوقف عن استخدام «الأدوات غير التقليدية» وشجعه على رفع معدلات الفائدة.
لم يصمد مصرف لبنان طويلاً. ففيما كانت أسعار الفائدة على الدولار في أميركا ترتفع، اندلعت أزمة احتجاز الرئيس سعد الحريري في السعودية، في ظل انعدام الاستقرار الإقليمي وارتفاع أسعار النفط العالمية. تطلب احتواء أزمة الحريري رفع معدلات الفائدة بنحو نقطتين، من دون التوقف عن استخدام «الهندسات المالية». ولكن هذه الإجراءات لم تكن كافية، إذ استمر خروج الأموال من لبنان بكميات أكبر من الأموال الداخلة إليه، ما انعكس عجوزات متتالية في ميزان المدفوعات الخارجية منذ عام 2011، وبلغ مجموعها المتراكم في سبع سنوات أكثر من 13 مليار دولار.
في الأشهر الماضية من هذا العام، عادت أسعار الفائدة إلى الارتفاع. وتبيّن أن مصرف لبنان يشجع المصارف على رفع هذه المعدلات، عبر دعم الفوائد مباشرة أو بطرق غير مباشرة. ويشجع المصارف أيضاً على عرض «منتجات» بفوائد مرتفعة جداً من أجل إغراء المودعين على تحويل بعض الودائع من الدولار إلى الليرة. وحث حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في لقائه الأخير مع المصارف على العمل لزيادة الودائع، وبالتالي دفع معدلات فائدة مرتفعة لجذبها، كي لا تضطر إلى تخفيض تسليفاتها، بموجب التعميم الصادر الذي يمنع المصارف من التسليف بالليرة بأكثر من 25% من مجموع ودائعها بالليرة، وهي تخطّت بمعظمها هذه النسبة.
معدلات الفائدة الحقيقية في السوق اليوم تتجاوز 15% على الليرة، وتصل إلى 10% على الدولار، ويشير مراقبون إلى أن أحد المصارف الكبرى في لبنان أطلق منتجاً يمنح بموجبه المودعين فائدة نسبتها 15% على وديعة قيمتها 30 مليون ليرة بشرط أن يستلمها بالدولار. وهناك مصارف عدة كانت قد رفعت الفائدة على الودائع بالدولار ما يؤدي حكماً إلى رفع الفائدة على الودائع بالليرة وعلى كل التسليفات أيضاً.
يعتقد الاقتصادي إيلي يشوعي أن هذا المستوى من الفوائد يعبّر «عن حالة هلع من قبل السلطة النقدية في لبنان، خصوصاً أنها اعتادت على تحديد مستويات الفائدة بمعزل عن حاجات الاقتصاد والمستثمرين والمستهلكين». برأيه، إن هذه المسألة «مزمنة وتتفاقم»، إذ إنه في ظل ركود اقتصادي لا تُرفع معدلات الفائدة بل تخفض من أجل تحريك الاقتصاد. «أما ارتفاع الفائدة مع الركود فيعني مزيداً من المآسي والإفلاسات والديون في القطاعين الخاص والعام. الفوائد أصبحت عقاباً لكل مستثمر ومقترض، علماً أن الخزينة اللبنانية هي أحد أكبر المقترضين في لبنان» يقول يشوعي.
في ظل هذه البنية «الغريبة» عن الأصول والقواعد الاقتصادية، «تتحكم مجموعة محددة من الأطراف بمعدلات الفائدة»، وفق رئيس المركز الاستشاري عبد الحليم فضل الله. يجزم أن العرض والطلب لا يحدّد سعر الفائدة في لبنان، بل هو نتيجة قرار من هذه المجموعة التي تعمل وفق اعتبارات نقدية تسمو فوق الاعتبارات الاقتصادية. «هذه المقاربة بالذات أسّست في التسعينيات لتعاظم الدين العام وصولاً إلى حجمه الحالي، ثم أرست نمطاً من الانكماش الاقتصادي الملحوظ. كلما ارتفعت معدلات الفائدة ازداد الركود والانكماش». ويرى فضل الله أنه يجب الاستفادة من الدرس السابق. الحلول المتاحة أن «نضع حداً للتوافقات بين الأطراف المؤثرة على سعر الفائدة، ونحدّد سقفاً للفوائد. يمكن مصرف لبنان أن يعطي إشارات في هذا الاتجاه».
يشير فضل الله إلى أنه من الضروري «عزل أثر ارتفاع الفوائد، وإبقاء القروض المدعومة، لا سيما القروض السكنية بالليرة، ومنع تضخّم الدين العام بهذه الفوائد المرتفعة من خلال إجراء خفض متفق عليه وملحوظ على الفوائد لاستحقاقات الدين العام، والعمل على حلّ اقتصادي يؤدي إلى خفض النزف في العملات الأجنبية. الأفضل أن تكون هناك إجراءات اقتصادية مباشرة ليكون لها مفعول مباشر على خفض فاتورة الاستيراد بدلاً من رفع الفائدة».
من الضروري العمل على حلّ اقتصادي يؤدي إلى خفض النزف في العملات الأجنبية
يكمن الخطر أيضاً في أن أسعار الفوائد مرشحة للمزيد من الارتفاع، انسجاماً مع السياسات النقدية التي ينتهجها مصرف لبنان. وبحسب مصادر مصرف لبنان «نحن محكومون بترك هامش بين الفائدة على الدولار في أميركا والفائدة على الدولار في لبنان، بين الفائدة على الدولار في لبنان والفائدة على الليرة». يقول فضل الله إن الأمور أمام احتمالات صعبة، ولا يمكن أن نقف متفرجين أمام المزيد من المؤشرات النقدية الانكماشية التي تعمق الركود».
يقدّم رئيس لجنة القطاعات الاجتماعية في المجلس الاقتصادي والاجتماعي مازن سويد مقاربة مختلفة. يقول إن «الفوائد المرتفعة هي الكلفة التي يدفعها لبنان من أجل الاستقرار النقدي. سبب الكلفة هذه هو التدهور الشديد في الوضع السياسي سواء تأخر تشكيل الحكومة أو الجو المتوتر في المنطقة منذ سنوات. منذ عشرين سنة كانت الفوائد منخفضة وكانت السياسات النقدية تمتص كل الصدمات، وبالتالي فإن الفوائد المرتفعة لا يمكن تبريرها حصراً بوجود اختلالات بنيوية». ويعتقد سويد أنه «لا يمكن عكس مسار الفوائد في لبنان إلا من خلال العمل على ثلاثة مستويات: على المدى القصير يجب إحداث صدمة إيجابية توحي بالثقة، وعلى المدى المتوسط يجب القيام بإصلاح مالي جذري يكمن في خفض كلفة الكهرباء على الخزينة وإصلاح الإدارة العامة، وعلى المدى الطويل يجب البحث في كيفية تحسين اقتصاد لبنان ليصبح قادراً على التنافس في الأسواق العالمية».
الفرق في ترتيب الأولويات والمسببات ليس أمراً عرضياً. هناك تكمن المشكلة الفعلية بين من يركّز على الدين العام والاقتصاد وبين من يركز على السياسة كأولوية. التركيز على العامل السياسي والإصلاحات المالية هو أمر يتبناه صندوق النقد الدولي بشكل واضح. مقاربة الصندوق متصلة حصراً بإجراءات مالية تعمّق الهوّة الاجتماعية والاقتصادية. ففي تموز الماضي أصدر الصندوق تقرير البعثة الرابعة (الذي لم ينشر حتى الآن)، وخلص البيان الصادر عن بعثة الصندوق إلى القول أن هناك تباطؤاً في تدفقات الودائع الداخلة إلى لبنان «وقد رفع مصرف لبنان أسعار الفائدة من خلال عملياته النقدية والمالية، وبخاصة على منتجاته بالعملة المحلية، بغية دعم التدفقات الداخلة وكبح الدولرة، لكن ينبغي له إلقاء نظرة بعيدة المدى والعودة إلى السياسة النقدية الأكثر ميلاً إلى الطابع التقليدي (رفع معدلات الفائدة). نشجع على رفع أسعار الفائدة إذا دعت الضرورة مع توخي اليقظة إزاء ديناميكية الديون». وكعادته، أطلق الصندوق وصفته الجاهزة التي يقترحها في كل زمان ومكان، ويندر أن تؤدي إلى تحسين اقتصاد أي دولة على المدى البعيد، فأوصى «بزيادة معدلات ضريبة القيمة المضافة، وإلغاء الدعم على الكهرباء بالتدريج، وكبح أجور القطاع العام». للأمانة، فإن الحكومة تتبنى «الوصفة الجاهزة» (أو تتجه لتنفيذها طبقاً لمتطلبات مؤتمر «باريس 4») فيما يطبّق مصرف لبنان «الهندسات المالية» غير التقليدية، ما يحمّل اللبنانيين الآثار التدميرية للخيارين معاً.
مصرف لبنان: قدرتنا الاحتوائية أكبر
تقول مصادر في مصرف لبنان إن لبنان يعيش حالة أزمة ولا يمكن تصنيفها بأي حال من الأحوال على أنها ستؤدي إلى الانهيار. قدرة مصرف لبنان على احتواء هذه الأزمة ليست قصيرة المدى بل هي أبعد بكثير، بعدما أجرى مصرف لبنان تغييرات أساسية في بنية القطاع المالي أبرزها: تمديد معدل استحقاق الودائع من 45 يوماً إلى 5 أشهر، إذ «صارت الفسحة الزمنية المتاحة للدفاع عن الليرة خلال الأزمات أكبر بكثير». لكن «كلما ارتفعت أسعار الفائدة في الخارج نحن مضطرون أن نرفعها أكثر في لبنان للحفاظ على التدفقات بالدولار من الخارج نحو لبنان». أما أزمة اليوروبوندز فهي مناسبة لشراء السندات المحمولة من أجانب بسعر رخيص، علماً أن مجمل ما يحمله الأجانب لا يزيد على 5 مليارات دولار وليس 12 ملياراً وفق تقديرات سابقة.
من ملف : الأزمة الاقتصادية: تصحيح طوعي أو الانهيار