Site icon IMLebanon

نقطة عالسطر!

 

…وأنا أضع نقطة الختام في هذه المقالة، لن أكتم حزني ولا غضبي. للمرة الثانية خلال أربعين سنة في عالم الصحافة، أطوي صفحة “المستقبل” وأمشي. في المرة الاولى بقي المستقبل قائماً، رغم كل الأسلاك الشائكة التي وضعت على الطريق…

 

في باريس التي جئتها من “السفير” وتجربتها المضيئة ، شاركت زملاء اعزاء وما زالوا ومنهم نيبال موسى وأنطوان عبد المسيح ، في إقفال مجلة “المستقبل” التي كانت تجربتها استثنائية بكل معنى الكلمة. لم تنفع كل جهود الاستاذ نبيل خوري لإنقاذها وعدم تحويلها الى ماضٍ. فقط عندما استسلم قام بتسليم الأمانة الى الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي حوّلها الى جريدة يومية، فشعار، ومن ثم الى مسار سياسي وشعبي. قبل صدور القرار القضائي بالإقفال كان كل شيء قد اصبح مكتوباً وواضحاً من الراتب الأخير الى التعويضات وتواريخ التحويل والقبض. رفض نبيل خوري الاستاذ في الصحافة، ان يقفل الباب خلفه، وأحد المحررين أو الموظفين يشكو من ظلم. تماماً كما أدار مجلة “المستقبل” في باريس طوال أربعة عشر عاماً ولم يتأخر يوماً عن دفع راتب بعد موعده. بعد إقفال المجلة حمل نبيل خوري كل ماضيه وحاضره ومستقبله ودخل عالم الانهيار النفسي والصحي فترة زمنية قاسية جداً، وذلك حتى استعاد توازنه في إذاعة “الشرق”…

 

الآن هذه نقطة النهاية. شاء القدر ان أكون على موعد غريب، مع وفاة الاستاذ والزميل ادمون صعب الذي كان أول توقيع لي بعد مرحلة التدريب معه في “النهار” في العام ١٩٧٠. في هذه الصدفة تذكير بأن النهايات تبقى مشدودة الى البدايات.

 

في لحظة الوداع بعد عشرين عاماً على عملي في جريدة “المستقبل” بعد انضمامي اليها منذ اليوم الاول من باريس. أذكر عبوري “الصحراء” بعد إقفال مجلة “المستقبل”، لان البعض ألصقوا بي تهمة “العمالة” لإيران لأنني تابعت شؤونها عن قرب وعلى الطريقة الغربية، اي التخصص والمتابعة اليومية، وشاءت الظروف والاحداث ان أنخرط بالعديدين دون التزام سياسي أو مذهبي، خصوصاً وأنني عروبي بالولادة والنشأة دون الانخراط في أي تنظيم أو حزب. لكن الإشاعة تقتل، خصوصاً في عالم الصحافة. وقد وصلت الإشاعة مضافاً اليها الكثير كما يقال “من الملح والبهارات” الى الرئيس الشهيد رفيق الحريري حتى أصبحت قاتلة، حتى أقدم صديقي وأخي المرحوم الدكتور سهيل بوجي على مصارحة الرئيس الحريري بكل واقعية واستناداً الى عيشنا المشترك طوال أربعة عقود، فصفت بعدها الأجواء وأصبحت واعدة.

 

لم أكن أعلم ان الرئيس الحريري يتابع عملية إصدار “المستقبل” في جريدة يومية، حتى استدعاني باكراً في باريس. وقال لي بعد أن قلب العديد من الصحف: ما رأيك بمانشيت هذه الصحيفة والخبر في تلك؟… أجبته بصراحة كما اعتدت على القول، ولأنه كان رجل القرار والحسم فإنه طلب الاستاذ الفضل شلق وقال له: مراسلك في باريس أسعد حيدر، وهكذا كان…

 

التزمت بالعمل في “المستقبل” من دون ان أنخرط في ما بعد بالمستقبل تنظيمياً وسياسياً. فضّلت الحفاظ على استقلاليتي، وفي الصحيفة تابعت عملي كما اعتدت ملتزماً بأصول المهنة، والالتزام السياسي الذي لم يتغير وإنما تطوّر. وللأمانة فإن إدارة التحرير التي كانت وما زالت حتى الآن برئاسة الزميل والصديق الكفؤ والمتابع هاني حمود، لم تتدخّل يوماً في كل ما كتبته، فلم يتم تعديل مقال لي ولو في جملة واحدة. كانت الثقة كاملة ومتبادلة. طوال عشرين عاماً طُلب مني ثلاث مرات سحب مقال لانه لا يتناسب مع الالتزامات السياسية للجريدة .

 

رغم استقلاليتي واستمرار انخراطي المهني ضمن اختصاصي بالشؤون الايرانية، وُجّهت لي “السهام” للمرة الثانية ممن لا يفترض منهم ذلك. فقد أُدنت بلا “محاكمة” بأنني عدو لإيران علما انني لم اكتب كلمة دون الاستناد الى ما هو منشور في ايران نفسها. هذا مع الاعتراف بأن إرسال ايران “حزب الله” وميليشيات شيعية وخبراء عسكريين ايرانيين لضرب الثورة في سوريا قد أثارني جداً وجعلني أحزن وأثور على ايران التي عرفتها مع الامام الخميني. وإذا كان ذلك لم ينعكس على علاقتي بـ “المستقبل”، فان ذلك انعكس عقاباً وحتى ثأراً من زوجتي الدكتورة نزيهة الامين. فقد بقي مرسوم ترقيتها مديرة عامة في الأمانة العامة لرئاسة مجلس الوزراء سبع سنوات دون تنفيذ، أي حتى تقاعدها. وقد وجد احد الأقطاب في “حزب الله” الجرأة لديه ليقول لها مباشرة: “زوجك السبب”. كاسراَ بذلك قاعدة اسلامية ذهبية “لا تزرِ وازرة وزر اخرى”، ومتناسياً وهو الذي يعرف أهلها جيداً انها فقدت شقيقيها: الاول مع بداية الحرب الأهلية أثناء إحراق بناية والدها ومحله، والثاني كان من أوائل شهداء المقاومة ضد اسرائيل عام ١٩٨٥. ولا شك انني من تصميمها وتجاوزها “للأسلاك الشائكة” قد ازددت قوة وصموداً.

 

الآن أضع نقطة ختام لكل هذه التجربة، وأنا على يقين ان الحياة دائماً مفتوحة على المستقبل مهما كانت أحداث ووقائع الماضي خليطاً من الحلو والمر… وأن “الأسلاك الشائكة” في هذا العالم المعقّد انسانياً تعوق الحركة، لكنها لا تقتل، وأن الأهم المضي دائماً إلى الأمام…