مطلع السبعينيات، شاهدت عيناي، وأنا ولد، بسطات الخس الممتدة بين الناعمة والسعديات، وعلى قفا مين يشيل، السبع أو الثماني خسات بليرة، قلب الخسة كان لي، وقلب ابنة الجيران لسواي.
بمرور الزمن، نزلت الخسة من عيني، ولم تعد مكوّن السلطة الأساسي المفضّل بوجود الـ “كايل” والفطر والقيثاء والروكا والشمندر. ولم تعد تعني لي شيئاً إن توسطت جاط الخضار أو واكبت جاط التبّولة.
وإن وجدت في البراد خسة شهية هرعت إلى السلحفاة حاملاً بعض الأوراق، ومتى ذبلت الخسة حملتها إلى القرقة نيرمين وصيصانها الأحد عشر.
تقع الخسة، بين الخضار، بمنزلة دنيا دون المنازل، سعرها بالأرض. وصيتها أيضاً. من هنا نشوء الهتاف الشعبي، المنطوي على مفهوم فلسفي عميق: “إنت وبس والباقي خس”. يقوله الحزبي لرئيس حزبه، ويقوله رئيس التيار للأب المؤسس. أما المثل الشعبي “كبرانه الخسة براسو” فيستهدف كل مغرور متشاوف، وليس بالضرورة أن يكون اسمه جبران أو وئام او غادة. لم يعش سلام الراسي ليشرح لنا أصل هذا المثل وفصله. سبرت أغوار غوغل فطلعت أمامي أغنية نقدية لصاحب الصوت الرخيم النجم حسّان هاشم بعنوان “كبرانة الخسّة”، ويقول مطلعها: “ع مهلك روق عليي كبرانة الخسة شوية ولك لا مغنى هيدا ولا فن والحالة مأسوية”. فارتويت وشبعت.
مع ارتفاع أسعار “كل شيْ” بالليرة. من وجبة السيريلاك إلى وجبة الأسنان، من ربطة الخبز إلى ربطة السلف، من مجمع الحليب إلى مجمع البويا، باتت صبحيات الأزواج تبدأ بنكد اليوميات وبورصة الأسعار “هيدا كوب النيسكافيه اللي بتترك نصّو، بيكلف 4 آلاف ليرة” وهيدي علبة البيسكويت التي تستهلكينها مع كوب النيسكافيه بـ9 آلاف و500 يا نحيفة”، وهكذا دواليك طوال النهار: بتعرف قدي كيلو اللوبياء عند إسطفان؟ وبتعرف قديه نص وقية اللوز المقشور عند رمّال الأصلي؟
أعود إلى الخسة، وإليها عاد اهتمامي كمكوّن غذائي لا غنى عنه في الهزيع الأخير من العهد الأخير جالب الآخرة المنحوسة بكل المقاييس. يوم إيه يوم لأ، ابتاع خسة لي، اتقاسمها مع أفراد العيلة ومع السلحفاة ومع الدجاجات والصيصان السود، نظراً لسعرها المعقول قياساً إلى حبة الأفوكا. لكن قبل أيام تملكني الذهول وأنا أقرأ السعر فوق جناح الخس. 12 ألفاً! ظننت أن قفص الخس بـ12 ألفاً لكن واقع الأمر كذّب قراءتي الأولية. في ما مضى من أيام الخير كنت أحمل إلى البيت بطيخة كاملة فخوراً بأنها فوق العشرين كيلوغراماً. ثم تحولت إلى حمل نصف بطيخة، ثم اكتفيت بربع بطيخة كل عشرة أيام. تُرى هل نصل إلى مرحلة نطلب فيها نصف خسة أو ست أوراق خس على ذوقك معلّم إسطفان؟