عادة ما يستحث كل منعطف وكل أزمة في تاريخ السياسة اللبنانية على قسط من التفكير، على اشتباك بالأفكار، أو في الحدّ الأدنى، أقلّه، بالشعارات. كان هذا الى سنوات من الآن. كان هذا وقت المجادلة حول النموذج الأصلح للبلد، “هونغ كونغ أم هانوي”، والسيل الكثيف حول الاحتلال والوصاية. كان هذا في أشد فترات الوصاية السورية صعوبة على حركة التفكير والتعبير، يوم تبلور تراث من أدب البيانات والعرائض، إبان السينودس من اجل لبنان وفي أعقاب الإرشاد الرسولي، ثم على وقع نداء المطارنة الموارنة ولقاء قرنة شهوان.
كانت هناك سجالات وافرة، وصلت أوجها في فترة التصادم بين مشروعَي 8 و14 آذار، وتراجعت بعد ذلك إلّا أنها تحرّكت مجدّداً على محكّ المتغيرات الانتفاضية الشعبية العربية، وكذلك الأخذ والردّ حول مقولة تحالف الأقلّيات، كانت هناك أفكار تُطرح، وأفكار يُردّ عليها بأفكار، حتى ولو كان الواقع أكثر خشونة من هذا الجانب فيه، حتى لو كان الواقع يسيل دماً، والحبر أيضاً يتحوّل إلى دم.
اليوم لم يعد كل هذا إلّا من الماضي في هذا البلد. لم تختفِ العقول التي تطرح أفكارها بطبيعة الحال، لكنها متناثرة كجزر صغيرة معزولة، صارت أكثر واقعية ونقدية من قبل، لكنه محكوم عليها باللاتأثير إلى فترة غير محسوبة وغير منظورة. هناك أزمة، هناك انتخابات جرت وأعلن فيها كل فريق انتصاره، وصعب تشكيل الحكومة من بعدها، علماً انه في الانظمة الدستورية الأسهل ان تتشكّل الحكومات فور الانتخابات، وما لم يحصل هذا تُعاد الانتخابات.
ثمة ازمة تؤخر تشكيل الحكومة، لكن الجهد، في السياسة وفي الاعلام، منصبّ على قياس “مدى هذه الأزمة”، مدى الصخب فيها، مدى التوتر فيها، مدى “الغنج” ومدى الجدّ فيها، مداها في الزمن، أي أمدها، مداها في المكان، أي حركة الاتصالات انقطعت او فتحت بين الاقطار. في المقابل ليس هناك أي جهد موازٍ، أو تداول مُشابه، يتّصل بماهية الأزمة، يتّصل بتحديد وجه اختلافها عمّا سبق من تعقيدات وتوترات وتسويفات وتعطيلات.
بمنظار الخلافات الماضية، التي كان يمكن ترجمتها إلى أفكار في نهاية المطاف، ولو لم تكن الأفكار تشغل حيزها الاساسي دائماً، بمنظار معظم التاريخ السياسي منذ قيام لبنان الكبير الى اليوم، ستغدو الأزمة الحالية “غير قابلة للقراءة”، غير قابلة للتشخيص كأزمة. الكبوة لا يُكابَر عليها هنا، لكن الأزمة تحتاج الى حد أدنى من الاستقطاب بين فكرتين مختلفتين على الأقل، ولو على سبيل تبرير الخلاف. هل ثمة افكار يمكن ان تُستقى من المراوحة الحالية، ومن الأحاديث السياسية الحالية، المتعلّقة بوضع ما بعد الانتخابات، وبتشكيل الحكومة العتيدة؟ هل ثمة أفكار تأخذ حيزاً من التداول؟ أقل بكثير من اي وقت مضى، وإن وجدت فأفكار عمومية حول الطائفية مأخوذة جملة، وحول الفساد كإشكالية مجردة، وقِس على ذلك. المفقود هو الانطلاق من الواقع السياسي الحالي لمحاولة تظهيره وقراءته بواسطة منطلقات ومفاهيم، وسَبر الافكار التي ينقسم حولها المتباينون في البلد حالياً.
الاستعانة بالمفاهيم، أو سَبر الأفكار المختبئة وراء التوترات الحالية، ليس في مصلحة أي من القوى السياسية في الوقت الحالي. لماذا؟ لأن ما يجمعها، منذ فترة، رغم تبايناتها وخلافاتها، هو أن كل شيء “تجريب في تجريب” إلى أن تحين الساعة اللازمة لإعادة تحريك الملف اللبناني ككل خارجياً، وأنه لمّا كان كل شيء “تجريب في تجريب” فليس هناك من قابلية أو من حاجة لصياغة التعارضات الحالية بشكل “نظري” من أي نوع كان. يمكن أن يرتفع الصوت والحدّة، يمكن أن يُستعان بأي حجة أو أي جملة في مواجهة طرف سياسي آخر، إنما لا حاجة لصياغة اي تعارض مع هذا الطرف في شكل “أفكار”.
القوى السياسية الأساسية في اللعبة اليوم لم تعد تتحرج من كون الامور لعبة أمزجة وحساسيات. هذا بحدّ ذاته خطوة على طريق المصارحة، بلا شك، لكنه يأتي على حساب أي قابلية للتفتيش عن أفكار تتخاصم حولها قيادات هذه القوى السياسية في الوقت الحالي. إلا إذا كان ثمة مجال لاعتبار القيل والقال “تريد إلغائي – بل أنت تريد إلغائي” عند أدنى تزاحم على المحاصصة بمثابة فتوحات في المجادلة السياسية.
السياسة ليست حلبة مبارزة بين أفكار سياسية واقتصادية فقط. لا شك في هذا، لكنها هذا أيضاً، وهذا الى حد كبير. حين تعقم السياسة من المجادلة بين الافكار بحجة ان الأولوية للتجريب وبورصة الأهواء والحساسيات والأمزجة، فهذا يعني تحويلها الى شيء آخر. هذا الشيء الآخر صار ثقيل الوطأة. خيضت الانتخابات بلا برامج وبلا أفكار، قيل بسبب قانون الانتخاب، مع ان القصد من القانون النسبي كان رفع درجة التسييس في الاستحقاق وليس العكس. ثم دخلنا فترة بعد الانتخابات، زاد التوتر في مساحات بعينها، لكن انعدمت المبارزة بين الأفكار، حتى بالقليل الذي كان متوفراً منها وقت الانتخابات. الأفكار هنا لا تعني “النخب” فقط. تعني عموم الناس. لم تجهل الناس يوماً في البلد طبيعة الفرز السياسي وتحولاته كما هي الحال اليوم. لماذا التوتر اليوم؟ لماذا تعطيل المؤسسات؟ لماذا التأخر في التشكيل؟ لماذا تحويل قضية التشكيل كله الى مسألة حساسيات وأمزجة؟ لا جواب عند الناس، بل لا جواب عند أحد ساعة تضيع من السياسة “لعبة الأفكار”، ساعة يُراد الاستعاضة عن “اللعبة المؤسساتية” و”لعبة الأفكار” معاً، بلعب الأعصاب والحساسيات.