عندما تهبط الدولة والجمهورية والسلطة الشرعية الى أدنى أعماق القاع، قاعِ الفراغات والمسؤوليات والصراعات والصفقات وتعفير الجبين الوطني بالوحل، فليس من العجب أن تتعرّض بلدة القاع العالية الجبين للإختراقات القاتلة.
لبنان: بلد مخطوف بأشباح الخارج، مسكونٌ بالمخيمات في الداخل، حدوده سائبة للداخل الضيف، نحن الضيوف وأنت ربّ المنزل، فأصبح الخارج في الداخل والداخل في الخارج.
على مدى عهود مَضَتْ، لم يكنْ ربّ البيت إلّا ضارباً بالطبل، المسؤولون والحكام والسياسيون بدوٌ رحَّل في لبنان، ينصبون الخيام ويقرعون الطبول، قبائل تغزو قبائل، وأحزاب تقاتل أحزاباً بسيوف الشياطين، والسيوف تتكسَّر في الهواء.
منذ أن فُتِحت أبواب الجحيم على العالم العربي والإسلامي، فإذا اللغة العربية السائدة، لغة العرب والإسلام والقرآن أصبحت لغة السيف والدم، ولم يفلح تفسير الآيات والمتنورون الدُعاة في كبح فواجع جزِّ الرؤوس وحرق الأحياء وتدمير الكنائس والمساجد واغتصاب سبايا النساء واغتيال حضارة التاريخ.
منذ ذاك، ونحن نحذّر من انزلاق لبنان في مهاوي البراكين، فيزج بنفسه في مخاطر الفعل وردّات الفعل وفي تبادل رسائل التفجير والتكفير، لتصبح التفجيرات في بلدة القاع كأنها رسالة ضغط من الداخل اللبناني على المقاتلين اللبنانيين في الخارج السوري، أو هي رسالة ضغط على مسيحيِّي الشرق الى مسيحيِّي الغرب المقاتلين في سوريا، الأمر الذي يجعل الإستعراضات العسكرية المسيحية أن تحوّل المواجهة ضد المسيحيين على أنهم عدوُّ مزدوج: عدوٌ تكفيري وعدوٌ عسكري.
وقلنا ونقول: إنَّ رسالة لبنان في العالم العربي والإسلامي هي المحافظة على ذاتهِ الحضارية التي بها ينقذ ذاتَهُ الوحدوية، وينقذ الذات العربية والإسلامية من الصراع المذهبي والإنشطار التكفيري.
هذا هو الدور الذي لعبه لبنان عبر التاريخ فكان له على العرب ولغة العرب وحضارة العرب فضلٌ لولاه لكانت العروبة تجرِّر أذيال البادية.
قال الشاعر والأديب اللبناني أمين نخله خلال الثورة التي قادها سلطان باشا الأطرش حين راح الفرنسيون يقصفون دمشق بالمدافع «بالأمس ومدافع الفرنسيين تتساقط على العاصمة الشامية أجرَيْتُ بهذا اليراع المسيحي على دمشق دمع العذراء… وهززتُ فؤاد الناسك… وحرَّكتُ الضمائر وأثَرْتُ النخوات، وما دمشق مسيحية ولا أنا مسلم…».
لبنان: إن لم يكن قلماً يحرك الضمائر، وصيغةً حضارية نموذجية، وديمقراطية دستورية، وحكماً مستقراً فاعلاً، فلن تكون هناك بارقة خلاص لذاته وللذَّات العربية المشتعلة بنار الكفر والنفط.
إنه في ذمّة الوعي العربي والإسلامي، وفي ذمّة الوعي اللبناني الغافل، وخفّة القادة اللبنانيين الذين يتلهون «بالسلّة» عن الغلّة، وعن إنقاذ مسيرة الحكم المتهاوية… ولن ينفع بلدةَ القاع التي سجّلت بطولة للتاريخ، أن تقف الحكومة دقيقة صمت على أرواح الشهداء وهي ماضية بالثرثرة الفارغة، ولا ينفع أيضاً إعلان الحداد، ما دام الرقص مستمراً على حبال الهنود الحمر.