تفيد البوصلة الانتخابية اليوم بأن هيلاري كلينتون ستعود إلى البيت الأبيض لتصبح أول امرأة في منصب الرئاسة الأميركية، لكن البوصلة السياسية تشير إلى أن هذه المرأة الطموح طوال عقود عدة لن تمضي السنوات الأربع المقبلة مرتاحة تحتفي بتتويج مسيرتها المثقلة بالحسابات والضناء، وإنما ستكون موضع ملاحقات وتشكيك ومحاولات لمحاسبتها على أخطاء كبيرة وصغيرة. هيلاري المرشحة التي افتقدت الجاذبية والشعبية لن تصبح بين ليلة وضحاها هيلاري الرئيسة التي يلتئم حولها الرأي العام الأميركي، لا سيما أن جزءاً مهماً منه لا يثق بها ويعتبرها صناعة المؤسسة الحاكمة من الشركات الكبرى المدنية والعسكرية – الاستابلشمانت – ويكن الكراهية لآل كلينتون في البيت الأبيض. أميركا المنقسمة على نفسها ستزداد عداء في ما بينها إذا أتت النتائج الانتخابية بفارق بسيط بين هيلاري كلينتون ودونالد ترامب المرشح الجمهوري رغم أنف الجمهوريين. أما إذا أسفرت الانتخابات عن مفاجأة فوز هيلاري كلينتون بأكثرية ساحقة، فإن رئاستها ستكون بولاية تعفيها من المرارة التي تتربص بها. ستكون هيلاري كلينتون عندئذ رئيسة إثبات العزم وإعادة الاعتبار إلى الولايات المتحدة عالمياً بعدما انحسرت الدولة العظمى في عهد باراك أوباما إلى خانة المهادنة والإرضاء في زمن تآكل المبادئ والفوقية الأخلاقية. رئاسة هيلاري كلينتون لن تكون انعزالية كما كانت رئاسة باراك أوباما، بل هناك مؤشرات إلى إعتزامها إعادة خلط الأوراق مع روسيا ليس لدرجة المواجهة، وإنما بهدف إبلاغ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن أميركا «العجوز» – كما اعتبرها الروس في عهد أوباما – خلعت عن نفسها تلك الصفة وهي اليوم تستعيد رونقها وصباها ونشاطها ولن تسمح لسيد الكرملين بالاستهتار بها. سياسات رئاسة هيلاري كلينتون نحو منطقة الخليج ودول مجلس التعاون الخليجي ستستعيد بعض أسسها التقليدية بهدف الإصلاح الجزئي للاهتزاز الذي طرأ على العلاقات التاريخية، لكنها لن تكون بمثابة انقلاب على سياسات رئاسة أوباما التي وضعت كل ثقلها وراء صوغ علاقات أميركية – إيرانية تاريخية ونوعية. لن يكون سهلاً على هيلاري كلينتون إقناع مصر بأنها توقفت عن دعم «الإخوان المسلمين»، لأنها في رأي النظام الحاكم في مصر لعبت دوراً مركزياً في صعود الإسلاميين إلى السلطة، وستبقى اللاثقة ملازمة لها ولطاقمها أقله في بداية عهدها، بينما يصوغ الرئيس عبدالفتاح السيسي علاقاته الاستراتيجية مع فلاديمير بوتين الذي يثق بكراهيته العميقة لـ «الإخوان». الحروب المستعرة في المنطقة العربية تنتظر هيلاري كلينتون. المعارضة السورية تتلهّف إلى سياسة أميركية جديدة، والنظام السوري يسعى مع الحلفاء الروس والإيرانيين والميليشيات إلى الاستفادة من «الوقت الضائع» إلى حين تسلّم الرئيس الأميركي الجديد زمام السلطة كي يتم فرض الأمر الواقع عسكرياً، بالذات في معركة حلب. تركيا تعد العدّة لإثبات حدّة الأدوات وقيمتها في يديها في سورية ونحو العراق. التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة يحاول تحقيق الانتصار في معركة الموصل ضد «داعش»، ومن ثم في الرقة بسورية على أمل إنهاء باراك أوباما عهده بإنجاز تاريخي يذكره بامتياز، قبل دخول الرئيس الجديد البيت الأبيض. العالم أجمع في انتظار نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية بعدما استمتع بظرافة الحملة الانتخابية حيناً واستغرب كثيراً حيناً آخر، ثم قلق وضاق كثيراً عندما تخيَّل ماذا يعني وصول دونالد ترامب إلى الرئاسة إذا ما طرأ عطل كبير على إبرة البوصلة التي ترجّح، اليوم، أن جدّة تقارب السبعين ستصبح أول امرأة تترأس الولايات المتحدة الأميركية.
ليس مستحيلاً أن يفوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية. إنما إذا لم تطرأ مفاجأة أو يقع حدث غير مرتقب، تتفق الأكثرية المراقبة للعملية الانتخابية على أن هيلاري كلينتون باتت شبه واثقة في طريقها إلى البيت الأبيض. في واشنطن، بدأوا يتحدثون عن أسماء يُعتقد أنها ستتسلم الحقائب المهمة. وعلى سبيل المثال، يبرز اسم ميشال فلورنوي Michelle Flournoy لمنصب وزيرة الدفاع، ما يجعلها أول امرأة في هذا المنصب. البعض يتحدث عن عسكري في منصب وزير الخارجية مثل الأدميرال جونز سيفريديس Jones Sevrides والجنرال جون آلن John Allen، إنما البعض الآخر واثق بأن الديبلوماسي المخضرم بيل بيرنز Bill Burns سيتولى ذلك المنصب وأن أحد الرجلين سيصبح مستشار الأمن القومي. كلها تكهنات مبنية على معطيات. المهم أن واشنطن بدأت فرز الأسماء لإدارة ديموقراطية أخرى بعدما أجهض دونالد ترامب فرص وصول إدارة جمهورية تقليدية إلى البيت الأبيض.
عدم وصول ترامب إلى الرئاسة سيزعج فلاديمير بوتين الذي لم يخفِ انحيازه، بل إن روسيا اتُهِمت بالتدخل في الانتخابات الأميركية ضد هيلاري كلينتون الأمر الذي أثار حفيظة الأميركيين بمن فيهم أولئك الذين لا يكنّون المحبة لها.
العلاقة الأميركية – الروسية في عهد هيلاري كلينتون لن تتأجج بحرب ساخنة أو باردة، لكنها لن تكون تهادنية لدرجة الرضوخ كما تميّزت في عهد أوباما، بالذات عبر العلاقة بين الثنائي الوزاري جون كيري وسيرغي لافروف، لا سيما في الشأن السوري. علاقة هيلاري كلينتون حينما كانت وزيرة خارجية بنظيرها الروسي سيرغي لافروف مرّت بأزمات مهمة أبرزها بسبب ليبيا عندما فسّرت موسكو العملية العسكرية لحلف شمال الأطلسي (ناتو) في ليبيا بأنها كانت استغلالاً لعدم تعطيلها قراراً في مجلس الأمن واستخفافاً مرفوضاً بهيبتها. هناك بدأت الكراهية بين لافروف وكلينتون، وهناك تدهورت العلاقة الروسية مع الدول الغربية وتصاعدت القومية الروسية.
روسيا متهمة اليوم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في حلب بعدما أصبحت طرفاً في حرب أهلية تقاتل فيها مع قوات النظام بمعونة ميليشيات تابعة لإيران وبمشاركة عسكرية إيرانية مباشرة. بريطانيا وفرنسا تريدان التوجه إلى المحكمة الجنائية الدولية لمحاسبة روسيا والنظام في دمشق على جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. تركيا تخوض الحرب في سورية وتدعم المعارضة المسلحة المعتدلة وهي تريد إنشاء مناطق حظر طيران ومناطق إنسانية آمنة، الأمر الذي تعارضه موسكو. وروسيا حوّلت كامل المسألة السورية من حرب بين المعارضة والنظام إلى حرب على «جبهة النصرة» للقضاء عليها والقضاء على المعارضة المعتدلة في آن.
هيلاري كلينتون تحدثت عن استعدادها لدعم إقامة مناطق آمنة في سورية ليس واضحاً ما إذا كانت تشمل مناطق حظر طيران وهو أمر مستبعد. المهم، أن هذا مؤشر إلى سياسة مختلفة عن سياسة أوباما الذي تنصّل من كل شيء في سورية. هذا لا يعني إطلاقاً أن هيلاري كلينتون جاهزة للتدخل عسكرياً بقوات أميركية في سورية – سوى عبر التحالف الدولي للقضاء على «داعش» وأمثاله مثل «جبهة النصرة». فالأمر مفروغ منه: لا قوات أميركية على الأرض في الحروب السورية أو العراقية أو اليمنية أو الليبية. هكذا هو المزاج الأميركي بالأمس واليوم وغداً على الأرجح. الجديد أن هيلاري كلينتون لن تترك لروسيا حرية الاستمرار بسياساتها في سورية بلا ردود ميدانية عبر تركيا وحلفائها الخليجيين وبلا محاسبة على جرائمها عبر دعم الحلفاء الأوروبيين في مسعاهم في المحكمة الجنائية الدولية.
ولأن هيلاري كلينتون ستصوغ علاقات واقعية مع الدول الخليجية العربية، قد تكون سياساتها في شأن سورية أكثر براغماتية ضمن هذه العلاقات مما كانت عليه في عهد أوباما. هذا يعني أنها ستصبح أكثر استعداداً للسماح بتسليح المعارضة المعتدلة في سورية لمواجهة النظام وحليفه الروسي. إنما من المستبعد أن تضع هيلاري كلينتون الحليف الآخر المهم لبشار الأسد، إيران وميليشياتها، في طليعة المحاسبة والمواجهة لأنها ستحرص على ألاّ تقع في مواجهة مع طهران تؤثِّر في الصفحة الجديدة التي فتحها باراك أوباما مع ايران عبر الاتفاق النووي.
ما قد تفعله هيلاري كلينتون هو إعادة النظر في ذلك الاستثمار الخطير في إنماء التطرف الإسلامي المذهبي وسكب الزيت على نيران العداءات السنّية – الشيعية. إدارة أوباما متهمة بأنها أطلقت يد «الحرس الثوري» الإيراني وقائد «فيلق القدس» قاسم سليماني في العراق وسورية بحجة أنه الشريك الضروري للقضاء على «داعش». هيلاري كلينتون قد تقرر أن إخماد النيران المذهبية بات الآن في صلب المصلحة الأميركية، وأن الوقت حان لوقف تمزيق الجيوش التقليدية بالميليشيات وما يسمى «الحشود الشعبية»، إما دفاعاً عن بقاء بشار الأسد في الرئاسة السورية أو دعماً لحكومة حيدر العبادي أو نوري المالكي في العراق. فهذا قاسم مشترك بين الغايات الإيرانية في المنطقة العربية وبين «داعش»، إذ كلاهما يريد تمزيق بنية الدولة العربية. انهيار الدولة وصعود الميليشيات و «الحشود الشعبية» خطر ليس محصوراً في البقعة العربية، بل يتعداها إلى إفرازات وتداعيات في القارة الأوروبية وأبعد منها وصولاً إلى المصالح الأميركية. ثم إن الحلقة المفرغة من الانتقام بين التطرف الشيعي والتطرف السنّي ليست صديقاً للقيم الغربية ولا للولايات المتحدة الأميركية. لذلك، إن أفضل ما يمكن أن تفعله هيلاري كلينتون هو إعادة النظر واتخاذ القرار التاريخي بوقف إنماء التطرف المذهبي والعداءات السنّية – الشيعية، والعمل على صفحة جديدة في العلاقات الأميركية – العربية – الإيرانية.
بالتأكيد هذه تمنيات وليست توقعات. لكن المنطق السياسي في هذا المنعطف التاريخي للرئاسة الأميركية يجعل ضرورياً الدفع نحو التفكير خارج الصندوق التقليدي ليس لأن الرئاسة ستكون على الأرجح لامرأة، وإنما لأن ما ترثه الرئيسة الأميركية المرتقبة يتطلب المعالجة الجذرية.