أصيب الوعي الوطني عندي منذ الطفولة بلوثة الجريمة التي ضربت وحدتنا الوطنية عام ٥٨. وذلك عندما كان أخي مغادراً عملَه في مطار بيروت حين غيبته عن هذه الحياة رصاصةٌ طائشة وهو عندي اقرب الى الخيال. وكانت أولى محطات ذاكرتي في الشأن العام هو تلك الهزيمة عام ٦٧ التي ألحقت الأطفال بنكبة الكبار عام ٤٨، والتي تتجدد دائماً بنكبات أضعاف ما كانت عليه في صورتها الاولى، وهذا ما نشهده في مخيمات النزوح هذه الايام. وانهزم الوعي عندي يومَ دخلت اسرائيل الى مطار بيروت 68 لتحرق طائراتنا المدنية وتعلن عن بداية زمن ليته ما كان. وانهزم الوعي ايضاً عندما وقعت السلطة آنذاك اتفاق التنازل عن فكرة الدولة وانتقالنا من السياحة الدينية والعملية والاصطياف الى السياحة القتالية، واصبح لبنان حقل رماية وساحة نزاع.
عشية ذلك التحول الشديد الغموض وفي أوج عدم القدرة على تحديد الاتجاه، ظهر فينا إمامٌ قائد مبتكِر خلاّق، أسّس للكينونة في صلب الكيان، وأبحر في مواجهة طوفان التّفلت والتسيّب والعنف والاحقاد، واستنبط اساساً عميقاً وصلباً للتلاقي الوطني، وهو الحرمان المناطقي غير الطائفي او الطبقي، ذلك المصطلح السياسي الذي صُنع في لبنان. وأنا من ابناء بعلبك الهرمل، تلك المنطقة التي فتحت قلوبها وبيوتها لسماحة الإمام المغيّب السيد موسى الصدر. وبعض نواب منطقة بعلبك، المسيحيون والمسلمون، كانوا في اساس حركة المحرومين، تلك المنطقة التي تجسّدت الوحدة الوطنية فيها بالظلم والإهمال والحرمان دون تمييز بين طائفة وأخرى. ونحن ابناء بعلبك الهرمل، لدينا الكثير لنقوله عن التسامح والحرمان في حضور الامام وغيابه على حدّ سواء.
كنّا نراه كلّ يوم قامةً وهامةً وروحاً مشعّة تسير بين الناس تشاركهم أفراحهم وأحزانهم وهمومهم. أَلِفَتْ عيوننا حضوره كلّ المناسبات، كما ألفتْ قلوبنا سعيه الدائم لصناعة الامان والوئام بين ابناء الوطن المصاب بالقهر والتسلط والقتل والدمار والتفكك والضياع. وها نحن نستحضر الإمام المغيّب بحضور السيدة الشريفة شقيقته، التي اختارت التسامحَ علامة فارقة لشقيقها الاقرب والأحبّ الى قلبها ووجدانها سيد التسامح سماحة الإمام المغيّب السيد موسى الصدر، الذي أغنى وطننا الحبيب بتسامحه، وكان وجوده بيننا يشبه وردة عطرة في غابة من الأشواك لأنّنا أهل ثأر وأحقاد وانتقام.
ادرك سماحتُه هول الحقد والبغضاء بين اللبنانيّين، مناطقَ وطوائفَ وعقائدَ وتنظيمات، بعد ان اصبح السلاح لغة التخاطب بين الجميع تحت عدّة مسميّات، فأدرك سماحته أنّ الخلاص لا يكون الا بالتسامح والتقارب. فتنكّر للطائفية والمذهبيّة والثأرية القبلية. وحاول منعَ الانزلاق الى النزاع الوطني المدمّر الذي دخلناه ربيع العام ٧٥، حيث تحوّلنا جماعات تسير في اتجاهات مختلفة، وأصبح العنف ثقافة وطنية لدى كلّ المناطق والطوائف. وحاول سماحته حينها منع ما يمكن منعه. وكان ذلك واضحاً عشية الاعتداء على بلدة القاع الكاثوليكية، حيث التقَيتُ سماحتَه في منزل الشيخ صبحي جعفر وبقي ساهراً حتى الفجر. ثم التقيتُ سماحتَه يوم صام واعتصم في الكلية العاملية وايضا اثناء الاعتداء على بلدة دير الأحمر المارونية، واستطاع يومها منع الفتنة والحفاظ على نعمة العيش الواحد في تلك المنطقة المحرومة من لبنان.
شهدتُ ويلات وأهوالاً واغتيالات وحروباً وقتلاً ودماراً، وخسرتُ الكثير من الأهل والاصدقاء والأحباب، وتجرّعتُ مرّ الهزائم والنكسات والاحتلالات. لكنّني لم اشهد جريمة أفظع وأقسى من جريمة تغييب صاحب السماحة وإمام التسامح السيد موسى الصدر، أعاده الله، والذي سيبقى راسخاً في الوعي والقلب والوجدان مهما طال الغياب.
* تقديم السيدة رباب الصدر – بيت المستقبل