Site icon IMLebanon

صمته المدوّي حمى مجد الكنيسة ولبنان

 

إختار السيّد المسيح رسلًا إثني عشر، واختار من بينهم سمعان بطرس بعد اعترافه بإيمانه بيسوع ابن الله الحيّ، ليقول له: «أنت الصخرة، وعلى هذه الصخرة سأبني بيعتي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها». وانطلق بطرس واخوته الرسل يعلنون إيمانهم بالرّبّ يسوع المسيح القائم من الموت ويحملون بشرى الخلاص الى العالم كلّه. وأسّس بطرس كنيسة أنطاكية قبل أن يذهب إلى روما ويستشهد فيها ويُثَبِّت فيها كرسيّه وأوليّته في خدمة المحبّة والوحدة.

 

أمّا آباؤنا البطاركة فاختاروا لهم اسم بطرس لأنّ كنيستنا المارونيّة وُلدت ونَمَت في حضن الكنيسة الأنطاكيّة واستمرّت وفيّةً لخليفة بطرس. فكان بطاركتنا يردّدون: إيمان بطرس إيماني! وكانوا يصغون إلى الرّبّ يسوع يقول لكلّ واحد منهم: «أنت الصخرة، وعلى هذه الصخرة سأبني بيعتي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها. إرعَ خرافي، إرعَ نعاجي. وكلّ ما تربطه على الأرض يكون مربوطًا في السماوات، وكلّ ما تحلّه على الأرض يكون محلولًا في السماوات».

 

ثبَتوا في إيمانهم بالرّبّ يسوع، وجاهروا به من دون خوف، وواجهوا بجرأة تحدّيات الزمن على أنواعها: الحروب والإضطهادات والنزوحات والإهانات حتّى الإستشهاد أحيانًا، ليحافظوا على القطيع الصغير الذي ٱئتمنهم عليه يسوع الراعي الصالح على اسم مارون.

 

قادوا شعبهم ببسالة وصلابة، متنقلين بين الجبال والوديان مع مريم العذراء رفيقة دربهم، حاملين كنيستهم وقضايا شعبهم في قلوبهم وعقولهم وصلواتهم ونضالاتهم ومعاناتهم اليومية، راسخين في إيمانهم بالله، متمسكين بقناعاتهم وثوابتهم، وأوّلها الحريّة، متجذّرين في أرضهم المقدّسة يعيشون عليها بروحانيّة وسلوكية الأب المؤسّس مار مارون وببسالة وعزيمة البطريرك المؤسّس مار يوحنا مارون. وفي مرحلة من مراحل التحوّل التاريخي، أسّسوا لبنان الكيان والدولة، ولم يريدوه لهم وحدهم بل أرادوه وطنًا لجميع أبنائه، مسلمين ومسيحيين، نموذجًا في الحريّة واحترام التعدّديّة والعيش الواحد.

من هؤلاء الآباء الأبرار مار نصرالله بطرس صفير البطريرك السادس والسبعون.

 

دعاه الله الى الحياة في 15 أيّار 1920، أشهرًا قليلة قبل إعلان دولة لبنان الكبير الذي انتزعه البطريرك الياس الحويّك من الفرنسيين والحلفاء في مؤتمر السلام في فرساي بعد نهاية الحرب العالميّة الأولى.

 

ودعاه الله من هذه الحياة الفانية إلى الحياة الأبديّة في 12 أيّار 2019، أشهرًا قليلة قبل الإحتفال بالمئويّة الأولى، ليحتفل بها في الملكوت مع البطريرك الحويّك.

 

وبين هذين الموعدين، عاش البطريرك نصرالله صفير تسعة وتسعين سنة، منها أربع وستون سنة أمضاها بالعمل الدؤوب في خدمة الكنيسة المارونية ومن أجل إعلاء القيم الإنجيلية بهدوء وحكمة وجرأة في الموقف والكلام وفي رأسها الحريّة، التي هي من مقدّسات الموارنة. فأتمّ مسيرة نضاله من أجل الكنيسة والوطن على خُطى أسلافه العظام، من يوحنا مارون الى جبرائيل حجولا الى اسطفان الدويهي الى الياس الحويّك وأنطون عريضه وبولس المعوشيّ وأنطونيوس خريش.

 

فكان مثلهم أبًا ومرشداً وقائدًا ومرجعًا في الشؤون الروحيّة والكنسيّة والمدنيّة لجميع أبنائه، الموارنة واللبنانيين على حدّ سواء.

 

تسلّم منهم ومن السيّد المسيح وديعة الرعاية، فحافظ عليها بأمانة وثقة بحسن التدبير الإلهي ومحبّة شعبه وإيمانه برسالة وطنه، مستوفياً كلّ المواهب والنِعَم التي خصّه الله بها: التجرّد والتواضع، الذكاء والحكمة والحنكة في مواجهة التحدّيات والصعوبات من أين أتت؛ فذلّلها أحياناً بصمته المدوّي وصلاته، وأحياناً بصوته العابر لكلّ الحدود المحلية والإقليمية والدولية والمتعالي عن السياسات الفئوية والحزبيّة.

 

وأجرؤ أن ألَخِّص حياته بحمله صليبين: صليب الرب يسوع، فكرّس له الوقت الكافي في التقوى والصلاة والخشوع والرجاء؛ وصليب الإنسان المقهور والوطن المعذّب في هذه المنطقة من العالم، فكرّس له مسيرة نضال شاق، أرهقته ولم تزعزع إيمانه بحتمية الخلاص من كوابيس الظلم والظلام.

كان يُتقن العضّ على الجرح بنعمة إلهية خاصّة، وينتظر بصمت ليقطف الثمار عندما يحين قطافها، لأنّه كان يؤمن أنّ الوقت هو لصالح الكنيسة لا لصالح من يطلبون الشيء قبل أوانه. فهي كنيسة المسيح وأبواب الأبديّة مفتوحة أمامها.

 

هذا على الأقلّ ما تعلَّمتُه منه. وهذا ما بدا واضحًا في تعاطيه مع الأحداث التي واجهها وطنيًّا، فاستحق اعتراف جميع اللبنانيين به مرجعاً لا ينكسر، وقائداً إستقلالياً لا يهادن ولا يساوم على سيادة أو حرّية أو كرامة شعب؛ وبدا واضحاً كذلك في تعاطيه مع المشروع الكنسيّ الكبير، أيّ المجمع البطريركيّ المارونيّ، الذي جعل منه البطريركَ المُجدِّد بعد البطريرك يوسف ضرغام الخازن الذي ترأس المجمع اللبنانيّ الأوّل سنة 1736 وجعل من كنيسته رائدة في الشرق والغرب ومنطلقةً في الحداثة والنهضة.

 

يوم انتُخِبَ بطريركًا، في 19 نيسان 1986، كانت الكنيسة المارونيّة بدأت بمسيرة مجمعيّة أطلقها العلّامة الخوري يواكيم مبارك مع الرابطة الكهنوتيّة وباركها البطريرك أنطونيوس خريش ثم المدبِّر الرسولي المطران إبراهيم الحلو، بهدف عقد مجمع لبناني ثانٍ يُجدِّد الكنيسة المارونيّة في حياتها ورسالتها بعد مائتين وخمسين سنة على المجمع اللبناني الأوّل.

 

بارك البطريرك صفير فكرة عقد المجمع وعيَّن في سينودس حزيران 1987 لجنة مجمعيّة برئاسة المطران يوسف الخوري والمطارنة جون شديد ويوسف بشاره وبشاره الراعي، وكلّفها «درس الظروف المؤاتية وتهيئة الأجواء لعقد مجمع ماروني عام»، دُعي في ما بعد المجمع البطريركيّ المارونيّ، يُطلق الكنيسة المارونيّة في رسالة أمميّة متجدّدة ومتلائمة مع بداية القرن الحادي والعشرين.

 

وفي عيد مار مارون 2003، أدرك غبطتُه أنّ التوقيت أصبح ملائمًا «بعد التطورات التي حصلت في لبنان، وبعد فترة الحروب والتهجير والهجرة، وبعد انعقاد السينودس من أجل لبنان وإعلان الإرشاد الرسولي رجاء جديد للبنان على يد القديس البابا يوحنا بولس الثاني». فدعا في رسالته العامة الثامنة عشرة الى عقد المجمع البطريركي الماروني في دار سيدة الجبل – فتقا. وترأس جلسات المجمع كلّها في دوراته الثلاث على مدى ثلاث سنوات. وتوضيحًا لأهداف المجمع، كان يرَدِّد: «نحن لا نسعى في سبيل طائفة أو في سبيل جماعة أو في سبيل حزب، إنّما نسعى في سبيل جمع الصفوف. ونأمل في أن يبقى لبنان ما أشار إليه قداسة البابا يوحنا بولس الثاني الوطن الرسالة ووطن التعايش السلمي بين جميع أبنائه، مسيحيين ومسلمين. انّه بلد صغير ولكنّه كبير بتاريخه وبمعانيه» (راجع كلمته في ختام الدورة الأولى، حزيران 2003، رسالة الأحد، العدد 446).

 

أمّا في ختام المجمع، في 11 حزيران 2006، فقال: «نحمد الله على عقد المجمع وإنجاز ما آلينا على نفوسنا إنجازه…أمّا وقد أصبحت وثائق المجمع البطريركيّ المارونيّ بين أيديكم، فنرجو أن تشكّل لكم مراجع تعودون إليها للإستنارة بما فيها من توجيهات سليمة تتعلّق بحياة الكنيسة وتعاليمها ورسالتها.

 

ولعلّكم تعرفون أنّ المجمع لا يكتسب ما له من أهميّة من الوثائق التي يتضمّنها بل من الإطّلاع على هذه الوثائق، والتأمّل في ما جاء فيها، وتطبيقها على الحياة اليوميّة. ونعتقد أنّ خير طريقة لتطبيقه هي أن تؤخذ وثائقه وثيقة وثيقة لتكون موضوع شرح وتأمّل في الرعايا والمدارس والأخويات، ليُصار إلى تفهمها على وجهها الصحيح، ومن ثم وضعها موضع العمل في الحياة اليوميّة» (راجع رسالة الأحد، العدد 606).

 

وفي آذار 2011، قدّم البطريرك مار نصرالله بطرس صفير استقالته لتقدُّمه في السن، تاركًا لخَلفِه مار بشاره بطرس الراعي مهمّة تطبيق المجمع وقيادة الكنيسة المارونيّة ولبنان في وجه التحدّيات المطروحة.

 

أما أبرشية البترون، أبرشية القداسة والقديسين، التي خدمها البطريرك صفير نائبًا بطريركيًا عامًا لسنوات، وأحبّها وفتح له أهلُها بيوتهم، والتي وضعها في أولوياته بعد انتخابه بطريركًا، فاختار لها مطرانًا نائبًا بطريركيًا عامًا في شخص سيادة المطران بولس اميل سعاده، ليقيم فيها ويرعاها ويسهر عليها وعلى أهلها في ظروف حالكة.

 

وإذا كنا عقدنا مجمعًا أبرشيًا يهدف إلى تطبيق المجمع البطريركي الماروني في سبيل التجدّد في العودة إلى الجذور ورسم خطة مستقبلية تجعلنا نسير على درب القداسة، فذلك لأننا أردنا أن نستنير بتوجيهات أبينا البطريرك صفير وأبينا البطريرك مار بشاره بطرس الراعي في مسيرة التطبيق.

 

نستودعك رحمة الله، الآب والإبن والروح القدس، ومحبّته اللامتناهية، أيّها البطريرك الصخرة، ونطلب صلاتك وشفاعتك من أجل كنيستك ووطنك لبنان الذي كرّست حياتك في سبيل أن يبقى وطنًا حرًّا سيّدًا مستقلًّا بهمّة جميع أبنائه، ووطنًا رسالة في الحريّة والديمقراطيّة والعيش الواحد في احترام التعدّديّة لكلّ بلدان العالم.