عن صائب بك وتخمينات وسط بيروت والحريري ونادي الرياضي
لم يكن رجلاً عادياً. ولم ولن يمرّ اسمه “عبوراً مسطحاً” في تاريخ لعبة كرة السلة في لبنان. وسيُحفظ اسمه عميقاً في كلِ مرة يمرُّ فيها اسم سوليدير. وسيذكره التاريخ في رحلةِ بدايات رفيق الحريري الشاقة والجميلة دائماً. هو رجلٌ عنيدٌ ومثابر ومستمرّ. صديقه صديقٌ إلى الأبد. وهو العارف كيف يجمع بين الصداقة والخصومة. وعلاقته بأنطوان الشويري – صانع المجد الذي لا يتكرر – شاهدة. هشام جارودي، الرجل الثمانيني، ذات الذاكرة الحادة والذكاء الثاقب تحت مجهرنا هذا الأسبوع.
بربطةِ عنقٍ نادراً ما تخلّى عنها يستقبلنا في مكتبه. صورة صائب بك سلام في صدر المكتب مذيلة بتوقيعٍ منه: إلى العزيز هشام مع محبتي. صائب سلام. في 9/4/ 1974.
هو لم يتخلّ يوماً عن صداقة آل سلام ولم تتأثر صداقته بالعائلة البيروتية يوم صادق رفيق الحريري. ولد في المزرعة، في برج أبي حيدر وعاش حياته في راس بيروت، في بيت متواضع من أبوين وديعين: التاجر في مال القبان في شارع فوش عزّت جارودي وناديا عانوتي جارودي ابنة المصيطبة. وضمت العائلة أربعة صبيان: طبيب العيون الدكتور نبيل، وأسامة وعدنان ومازن. وابنة وحيدة اسمها منى. درس في “الآي سي” وأحبّ دائماً الرسم والآثار. ويوم أراد دخول الجامعة الأميركية اختار الهندسة اختصاصاً. لماذا الهندسة بالذات؟ يجيب: “سُئلت نفس السؤال من أساتذتي فأجبتهم: لأن الهندسة وبناء البيوت المريحة الجميلة كانا شغفي”.
كان معجباً بأداء عاصم سلام الهندسي – وهو من علّمه – وتعلّم أيضاً على يدي ريمون غصن وسمير خيرالله ويقول “أحببت السينما دائماً. كنتُ أقصدها صبيحة كل يوم أحد، حيث كانت البطاقة بنصف ثمنها صباحاً، بستين قرشاً. ويوم خضعت لامتحان الدخول إلى الجامعة الأميركية. سألوني: ماذا كان آخر فيلم شاهدته؟ أجبتهم. سألوني: هل تقرأ الصحف؟ أجبت: أقرأ الحياة. سألوني: هل تتذكر الجملة الموجودة تحت اسم الحياة، على الصفحة الأولى فقلت لهم: إن الحياة عقيدة وجهاد. فنجحت. كان مطلوباً أن يكون المهندس واسع الآفاق لا مجرد طالب بارع في الرياضيات”.
صائب بك وولده الأعزّ
في أوائل انطلاقته دلّه أستاذه عاصم سلام على صائب سلام فبدأ العمل معه في المقاصد. ويقول “تعلمت من عاصم أصول العمل الهندسي، وهو من شيّد أجمل البيوت وبينها بيت كميل شمعون في السعديات. نحن من بنينا مبنى البازركان في سوق الطويلة. وصائب بك “دفشني” لاحقاً للسفر إلى قطر، بعدما تعرفت على عبد الكريم الزين – شقيق الوزير عبد اللطيف الزين – وصديقه القطري علي بن علي، الذي أخذني معه لبناء أول فندق كبير في قطر. حصل ذلك عام 1969. لاحقاً، تعاونت مع والد الشيخة موزة ناصر المسعد في لندن وبيروت وماربيا وأوروبا وأميركا وكندا”.
عاد إلى بيروت، واستمرّ مع صائب بك سلام. وذات يوم، حين سافر الأخير إلى جنيف بعيداً عن الأذى السوري. زاره هناك فاتصل الشيخ رفيق – رفيق الحريري – وقال للست تميمة صائب سلام: سآتي لزيارتكم وأتناول الغداء معكم. حضّري لي السلطة التي أحبها لكن بلا زيت – كان يخضع إلى ريجيم خاص. ويخبر “وصل رفيق. تناولنا الغداء معاً. وحين هممتُ بالمغادرة سأل الشيخ رفيق صائب بك عني فأجابه: هذا أعزّ ولد عندي. هو من أكثر المهندسين براعة. دمعت عيوني. أحبني صائب بك كثيراً”.
“بعد يومين، دقّ هاتفي – يتابع جارودي – كان على الخط فؤاد فواز الذي قال لي: يريد الشيخ رفيق أن يراك غداً. اتصلتُ بتمام سلام وأخبرته. أخبر والده وعاد واتصل بي قائلاً: يقول لك والدي أن تذهب. فعلت. وحين وصلت مساء كان على العشاء في بيت رفيق كل من بهيج طبارة وباسيل يارد – صديق الشيخ رفيق والرئيس جاك شيراك – وعبد اللطيف الشماع ومصطفى الرزيان – مدير بنك المتوسط آنذاك – وناصر الشماع الذي أصبح رئيس شركة سوليدير. كانوا مجتمعين حول طاولة تضم خواريف وأسماكاً، لكن الطباخ أدخل صينية “مبحترة” (بطاطا صغيرة مقلية مع البصل والبيض). تناول منها الشيخ رفيق. رائحتها كانت تشق القلب. فقلت له: هل تريد أن تأكل الطبق كله؟
ابتسم لي وسكب لي منه. كان الطبق الأطيب. بعد العشاء قال لي رفيق: هشام، أريد منك أن تشتري لي الوسط المقفل في بيروت. أريد إعادة بنائه وبناء بيروت أجمل مما كانت. قلت له: لا يمكنك ذلك. هذا مشروع دولة لا شخص. والملكية الفردية حق مقدس في الدستور اللبناني. وبالتالي يفترض أن يكون المشروع لمصلحة عامة وتتملك الأرض الدولة وتعيد توزيعها وتسعيرها. نظر إلى الشيخ بهيج وسأله: شو عميحكي الشاب؟ أيّد طبارة ما قلته. حينها قال الشيخ رفيق: إذهب الليلة واكتب ما تفكر به في شأن “الزون” الذي أفكر بإعادة بنائه. كان ذاك الزون يمتد من فينيسيا صعوداً نحو أوتوستراد فؤاد شهاب، إلى بناية برج الغزال في الأشرفية، نزولاً نحو شارع جورج حداد، ووصولاً إلى بيت الكتائب في الصيفي. لم أنم تلك الليلة. كتبت 60 صفحة عن رؤيتي لذلك المشروع. وعند الساعة الخامسة صباحاً دقّ هاتفي وقال لي المتصل: ثمة سيارة تنتظرك لتقلك إلى بيت الشيخ رفيق. ذهبت فقرأ أول ست صفحات ثم نظر إليّ قائلاً: إنطلق بالعمل”.
وانطلقت سوليدير
… وانطلق هشام جارودي في إعداد المشروع الذي سمّي لاحقاً سوليدير. ويقول “طلب مني الشيخ رفيق أن أعمل في مقرّ الفضل شلق في بعبدا. كان بعيداً عن الدوائر العقارية “فما مشي الحال”. أخبرته. أجابني: أوكي شو بدك؟ واتّصل بفؤاد السنيورة، كان رئيس بنك البحر المتوسط، فأعطاني طابقاً في مبنى جفينور في الحمراء. وبدأتُ تحضير وجمع المعلومات. بدأتُ تعبئة المعلومات لكل عقار على حدة. وأضمّ ما عليه من رهونات ورسوم ومستأجرين وقيمة الخلو المتوقعة. أعددت اوراقاً ومستندات وملفات جاوزت سعتها 4 حقائب كبيرة. وأتذكر أن رفيق سألني يومها كم تحتاج على هذا العمل. معاونوه عرضوا ثلاثة ملايين دولار. لكنني أجبت: 300 ألف ليرة. تقاضيت منها مئتي ألف. وأتذكر أيضاً أنني يوم نقلت الملفات في الطائرة إلى السعودية لإطلاع الشيخ رفيق عليها كان موجوداً صديق له اسمه هنري إده. قال لي الأخير: لدي مكتب في ستاركو هل شملته في ملفاتك؟ بدا وكأنه يختبر معلوماتي. سألته عن اسمه. أجابني: هنري إده. أخرجت ملف منطقة ميناء الحصن وزقاق البلاط وبحثت عن اسمه في الأبجدية. وأخرجت ملف رقمه 133. فتحته وقلت له: إيجارك مكسور. وعليك براءة ذمة بلدية ومالية وصيانة لستاركو… “فرفع العشرة”. نظر إليّ رفيق وكرّر عليّ عبارته: إنطلق. فكرنا يومها بوضع هنري إده رئيس مشروع سوليدير – مشروع إعادة إعمار وسط بيروت – وطلبنا من وزارة العدل- أيام الوزير محمد الغزيري – أن يخمّن قضاتها الأراضي ويحصروا النفقات. وهذا ما حصل”.
هنا، نطرح سؤالاً بديهياً: هل كانت هناك عدالة في التخمين؟ نريد جواباً للتاريخ؟ يجيب “الاعتراضات التي واجهناها لم تكن منصفة. حين بدأنا المشروع وجرى التسعير، بإشراف محاكم، كانت الأسعار شيئاً، وبعد انطلاق الأعمال والتجهيزات والبنى التحتية أصبحت الأسعار شيئاً آخر. وأتذكر أن ملاكين من آل حداد عرضوا بيع ثلاثة عقارات، المتر الواحد بثلاثة آلاف ليرة. أردت الشراء شخصياً. لكن، حين عرف الشيخ رفيق ذلك قال لي: لا، لا تشتري كي لا يقولوا إنك استفدت من المشروع. ما أريد قوله هو أن الأسعار كانت شيئاً يوم كانت الأرض ردماً ومأوى للكلاب والجرذان وأصبحت شيئاً آخر. ولا يمكن للناس أن يقولوا ظلمنا. وهنا أتذكر أن مَن طالب من المالكين بالمشاركة في الأعمال وتجهيز البنية التحتية الرئيسية كان لهم ذلك. البنك العربي أحد هؤلاء”. يتمهل هشام جارودي ويقول “كل ما أقوله بصدقٍ كبير حقيقي”.
شراء قصر السعديات
أربعة أعوام استغرقتها أعمال التأسيس لبناء حلم رفيق الحريري. ويقول جارودي “الثقة بيننا كانت كبيرة. لم أتقاضَ منه مالاً. ولم أقبل الهدايا. وكانت لديّ أملاك تناهز أملاكه في حينها. وأتذكر أنه من جملة ما سألني: هشام ماذا لديك من أملاك؟ أجبته: لدي أراضٍ وبيوت كثيرة. سألني: هل قمت “بتطويبها” (طابو). أجبته: الطابو 17 في المئة للأجانب و11 في المئة لأملاك اللبنانيين. لذلك، أعمل على تنظيم وكالات عادية وغير قابلة للعزل بدل تسجيلها. أجابني: هذا خطأ. هذا تهرّب من دفع الرسوم. علينا أن نقوم بشيء يدرّ مالاً لخزينة الدولة. ويومها، عمل على تخفيض القيمة إلى خمسة في المئة فطوبت كل عقاراتي وحفظت كامل حقوقي بملكية صريحة. وأتذكر أنه كان يرفض تسجيل أي عقار باسمه بقيمة غير حقيقية. وثق بي دائماً. وكل من أراد أن يستفهم عن عقار كان يقول له: راجع هشام. وذات يوم، اتصل بي قائلاً إن داني شمعون اتصل به ويريد بيع قصر والده في السعديات. وسألني: كم يُخمن هذا العقار. سألت وأجبته فقال لي: لكنه طلب أربع مرات أكثر من هذه القيمة. قلت له: هذا رجل كريم وبحاجة للمال ووالده لم يترك له اموالاً والقرار له. أجابني: ضاعف له الثمن مرتين لا أربع مرات”. كم كانت القيمة؟ يجيب “بين ثلاثة وأربعة ملايين دولار”.
امتلك رفيق الحريري، إلى كل ما امتلكه، كثيراً من البيوت وهو أوصى بها كلها لزوجته نازك ويقول جارودي “خاف عليها من بعده فأوصى بأن تنتقل إليها كل بيوته في بيروت – قريطم – وفقرة والدامور وباريس ومونتي كارلو وأميركا… كلها أصبحت ملك نازك الحريري. وحده قصر صالحه في بيروت الذي نام فيه الملك عبدالله يوم زاره قدمه له. هذه قصة رفيق الحريري”.
قبل أن ننتهي من قصة هشام جارودي مع رفيق الحريري نسأله: كيف تمكنت من الجمع بين صداقتك لرفيق الحريري وصداقتك لآل سلام الكاملتين؟ يجيب “كان الشيخ رفيق كريم النفس قال لي صائب بك عنه: هذا أعطاه الله موهبة لم يعطها لسواه وهي نعمة العطاء. أحبّ دائماً أن يعطي. وأتذكر إشكالاً حصل بينه وبين سليم الحص يوم قدّم له الحريري طائرة فرفضها. لم يقبل الشيخ رفيق باستعادتها بل قدمها للدولة اللبنانية. وكان للحص صديق هو عصام نعمان أطلق بحقّ الحريري نعوتاً قاسية بلا سبب وقام بالتجريح به. أحد المقربين من الحريري قال له: كيف تسمح له بذلك وأولاده يتعلمون في الخارج على حسابك. ناداني رفيق وسألني: هل هذا صحيح؟ سألت بدوري وأجبته بالإيجاب. قلت له إن ابنتيه تتعلمان على نفقته. سألني: كم هي علاماتهما؟ قلت له: A و A+. فقال لي: إياكم أن تقربوا صوبهما. ستثمران، كما كل الشباب والشابات لاحقاً اسماً نظيفاً للبنان”.
شغوف بكرة السلة
ما الذي أخذ هشام جارودي إلى لعبة كرة السلة؟ يجيب بسرعة: صائب سلام. يوم هدأت الحرب عادت وبرزت الرياضة. كان رئيس اتحاد كرة السلة صديقي طوني خوري تحدث عن نوايا بإجراء انتخابات في النوادي. فقال صائب بك، بعدما تكلم مع تمام وسليم دياب – وكان عضواً معنا في مجلس أمناء المقاصد وصديق تمام – فلنأتِ بهشام رئيساً لنادي الرياضي. يومها، كان يرأس النادي طوال خمسين عاماً وفيق نصولي. كان تاجر قماش في شارع اللنبي وعضواً في بلدية بيروت. وأتذكر أن نصولي سألني: عليك أن تدفع 100 ألف دولار لتصبح رئيساً. سألته: وهل دفعت أنت؟ أجابني: وما دخلك أنت؟ فانسحبت. لكن صائب بك أصرّ وجرت انتخابات وأصبحت رئيساً. وأعدتُ بناء نادي الرياضي”.
هشام جارودي رئيسُ النادي الرياضي لكرة السلة طوال 25 عاماً. وترك لأسبابٍ تكلم عنها وعن صداقته مع خصمه أنطوان شويري “شعرتُ أن النادي يكبر كثيراً. وكان أهم خصم لي أنطوان شويري في نادي الحكمة. أصبحنا صديقين لدودين. كان أنطوان يصرف الكثير من جيبه على النادي واللعبة. تعرفتُ إليه أول مرة يوم تأهلنا للنهائي في الأردن وسافرنا لأول مرة للمشاركة في بطولة آسيا. رفيق الحريري أرسل معنا طاقماً من تلفزيون المستقبل. دخلنا إلى الملعب مع المصورين فمنع طاقمه. والمفاجأة كانت حين علمت أن ثلاثة تلفزيونات كان مسموحاً لها بالتصوير: تلفزيون أميركي وثان من كولالمبور حيث تجرى بطولة آسيا وتلفزيون محلي لبناني هو آل بي سي بقرارٍ من الشويري. شعرتُ يومها بقوة أنطوان الشويري. طار عقلي. اتصلت برفيق وأخبرته. ومنذ ذاك الحين اشتدت العلاقة بين الشويري وبيني. نتنافس ونتحالف. وكان رفيق الحريري يدعونا بعد كل مباراة إلى العشاء معاً قائلاً: كلّ من يصل إلى النهائيات هو بطل”.
لكن، لماذا قرر ترك إدارة اللعبة في الرياضي التي كان – ويستمر – مولعاً بها؟ يجيب “وصلني مكتوب أرسل من البنك المركزي لمصرف بنك لبنان والمهجر الذي كنت زبونه يحذرون فيه من حساب النادي الرياضي مع هشام جارودي الذي أصبح مكشوفاً بأكثر من 33 مليون دولار. توجهت إلى منزل تمام بك فأبدى دهشته. وقال لي: إهدأ يا هشام سنرى ماذا يمكننا فعله. وكان سعد الحريري قد وعد بأن يساعدنا. لكن، يوم تأخر بذلك ولم يعد يعطيني المصرف مالاً، كررت طلبي الاستقالة فاقتنع تمام بك. سعد الحريري رفض الاستقالة لكنني أصريت. وأتذكر أنه أقام حفل تكريم لي في السراي قال فيه: صرف من مال عيالو على النادي الرياضي. اعتبرت يومها أنني استعدت حقي”.
في ثروة عائلة هشام جارودي ثلاثة أولاد: تمام وناديا وثوريا. حين يبدأ في الكلام عنهم تلمع عيناه. وله خمسة أحفاد بينهم هشام الصغير. هو ما زال يشاهد السينما بشغف. ويمشي يومياً، في تمام الساعة الخامسة صباحا، على كورنيش المنارة مع صديقه زهير قرنفل. أما صديقه السرمدي فيبقى تمام سلام “نلتقي أسبوعياً وتجمعنا مناسبات عائلية دورية وثالثنا هو محمد المشنوق”.
قبل أن نغادر نسأله: أين أخطأ هشام جارودي؟ يفكر قليلاً ثم يقول “من يعمل يُخطئ لكنني إذا أخطأت في حقّ أحد أعترف له”.