أخيراً، وبعد فراغ رئاسي دام ما يقرب من عامين ونصف العام، أجريت انتخابات رئاسية في لبنان، ونجح ميشال عون في اقتناص المنصب الذي تطلع إليه بشغف وقاتَل للفوز به بعزيمة لا تلين. غير أن وصول عون إلى المقعد الرئاسي لم يكن ممكناً إلا في ظل ظروف محلية وإقليمية وعالمية استثنائية، من ناحية، وفي إطار صفقة سياسية تتيح لسعد الحريري، من ناحية أخرى، أن يصبح في الوقت نفسه رئيساً للحكومة. وهكذا أصبح لبنان في وضع جديد قد يؤدي إما إلى استمرار الأزمة وإدارتها بوسائل وأساليب أخرى، وإما إلى إعادة ترتيب الأوراق بطريقة تساعد البلد على إيجاد حل حقيقي للأزمة وليس تأجيلها أو إدارتها. فهل يعي عون والحريري أن التاريخ يتيح أمامهما اليوم فرصة فريدة للإسهام في شكل فعال، ليس في إنقاذ لبنان فقط، بل العالم العربي كله، من هوة سحيقة تنتظر الجميع في حال استمرت السياسات العربية على ما هي عليه من بلادة وقِصر نظر؟
أثار انتخاب عون، كما كان متوقعاً، عاصفة من ردود الأفعال المتناقضة. وبينما اهتم بعضهم بالتوقف أمام السمات الشخصية التي مكَّنت الجنرال من حسم الصراع لمصلحته في النهاية، عكف آخرون على تحليل الحدث بعيون حزبية أو طائفية أو أيديولوجية. فمن قائل أن فوز عون يعد انتصاراً للتيار الذي يقوده «حزب الله» وهزيمة للتيار الذي يقوده الحريري، ومن ثم سيؤدي إلى ترجيح كفة المكون الشيعي في معادلة الداخل اللبناني، وقائل بأنه يعد تراجعاً أمام موجات المد الإيراني، ومن ثم سيؤدي إلى مزيد من الاختراق الإيراني للعالم العربي، إلى قائل بأنه يعد تكريساً لانحسار النفوذ الأميركي وانسحابه التدرجي من المنطقة، ومن ثم سيؤدي إلى تسارع معدلات عودة النفوذ الروسي… الخ.
قد تنطوي هذه الرؤى أو التحليلات على بعض الحقيقة. لكنّ أياً منها لا يعكس الحقيقة كلها. فانتخاب عون لم يكن حدثاً تقليدياً أفرزته مناورات وتحالفات سياسية معتادة في ظروف طبيعية، وإنما جاء كمحصلة لعملية تفاعلية قسرية أفرزت في النهاية صفقة من شقين يصعب فصل أحدهما عن الآخر: عون رئيساً للدولة في مقابل الحريري رئيساً للحكومة. ولأن الأوضاع الإقليمية والدولية المحيطة ظلت متوترة ولم تسمح بإنضاج رئيس توافقي، فالأرجح أن تكون العملية التفاعلية التي أفرزت عون رئيساً للبنان قد تمّت هذه المرة، وعلى غير المعتاد، داخل حاضنة لبنانية خالصة، بعيداً من أي تأثيرات إقليمية أو دولية ضاغطة. وإذا صحَّ هذا الاستنتاج، فلن يكون لما حصل سوى معنى واحد، وهو أن الساحة اللبنانية تشهد حال تمرد هادئ على أوضاع إقليمية ودولية كثيراً ما تحكَّمت في شؤونها الداخلية وأملَت عليها قوانينها وموازينها الخاصة، من دون أي اعتبار لمصالح لبنان الدولة أو المجتمع، وتعد المسؤول الأول عن حال الجمود التي أصابت الحياة السياسية اللبنانية طوال الأعوام الماضية. ليس معنى ذلك أن عون والحريري أصبحا بموجب هذه الصفقة شريكين متضامنين وأنهما انتقلا من خندق العداء المستحكم إلى ساحة الصداقة الرحبة، لأنها كانت في الواقع صفقة عكست تحالف المضطرين بأكثر مما عكست تعاون المتفاهمين.
لوحظت مسارعة إيران بتهنئة عون بفوز رأت فيه «انتصاراً لمحور المقاومة». وأوفدت السعودية مندوباً لها إلى لبنان في إشارة رمزية إلى مباركتها الاتفاق، لا تعني انتهاء قلقها مما اعتبرته «مغامرة كبرى». وأياً كان الأمر، فإن الحقيقة التي يتعين التوقف أمامها هنا هي أن النظام اللبناني سيظل عاجزاً عن العمل بالكفاءة المطلوبة في تلك المرحلة الحسَّاسة ما لم يتمكن كل من عون والحريري من التوصل إلى صيغة لعلاقة تعاونية تسمح للنظام اللبناني بتجاوز التحديات التي تواجهه حالياً، وهي كثيرة ومعقَّدة. ولأن الصيغة المؤسسية التقليدية القائمة على تعايش شكلي بين رئيس دولة ماروني ورئيس حكومة سُني لن تصمد في وجه تلك التحديات، يتعين البحث عن صيغة جديدة تسمح بإدخال تغييرات جوهرية على بنية النظام السياسي اللبناني نفسه، ولو بعد حين.
كانت الدولة اللبنانية قد اكتسبت خصوصيتها، منذ اللحظة الأولى لتأسيسها في العام 1943، من طبيعة النموذج الذي طرحته لتحقيق تعايش مجتمعي يقوم على توازنات طائفية دقيقة. فقد اعتقد الآباء المؤسسون أن الطريقة المثلى للحفاظ على هذا التعايش تفرض على الدولة اللبنانية النأي بنفسها عن صراع المحاور المتنافسة على الساحة العربية، وهو ما يفسر حرصها المبالغ فيه أحياناً على التمسك بفكرة السيادة. ومن المعروف، على سبيل المثل وليس الحصر، أن ممثل لبنان في المشاورات التمهيدية التي سبقت تأسيس جامعة الدول العربية رفض في شكل قاطع كل الصيغ الوحدوية التي طرحت، فيديرالية كانت أم كونفيديرالية، معتبراً أن اندماج لبنان في محيط عربي، أي مسلماً بالضرورة، ينتقص من سيادة البلد ويهدد أمنه. غير أن التطورات التاريخية اللاحقة أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك استحالة انعزال لبنان عما يجرى في محيطه العربي، وأن الحماية الحقيقية لسيادة الدول العربية لا تتحقق إلا في ظل حد أدنى من التضامن والوحدة بين الدول العربية كافة. ففي غياب مظلة عربية أصبح لبنان، شأنه في ذلك شأن الدول العربية الأخرى، ساحة مستباحة لكل أنواع النفوذ والاختراق الأجنبيين.
يرى كثيرون اليوم أن إيران باتت تشكل تهديداً لأمن العالم العربي كله، خصوصاً أنها أصبحت حاضرة بقوة في أزمات الداخل العراقي والسوري واليمني واللبناني ودول عربية أخرى، ولست ممن يجنحون إلى التقليل من خطورة هذا الوضع. غير أنني لا أستريح كثيراً للأطروحات التي تصر على تصوير هذا الخطر وكأنه التهديد الوحيد أو الأعظم على الأمن القومي العربي، وهو ما يوحي به معظم ما نشر أخيراً من مقالات وتصريحات عن دلالة انتخاب عون رئيساً للبنان. فالمشكلة التي يواجهها العالم العربي أعمق من ذلك بكثير. وإذا أخذنا لبنان مثالاً، فسنكتشف أن خللاً جسيماً أصاب بنية نظامه السياسي منذ البداية وكان من بين أهم الأسباب التي أدت إلى انتشار الفوضى فيه في مراحل تاريخية مختلفة، مثلما حدث خلال الملابسات التي أدت إلى استدعاء قوات «المارينز» الأميركية في العام 1958، وتلك التي فجَّرت حرباً أهلية في العام 1975 ظلت مشتعلة لسنوات طويلة، أو التي أدَّت إلى احتلال إسرائيل الجنوب اللبناني في العام 1978… إلخ. وكلها أحداث حصلت قبل تأسيس «حزب الله» وقبل اندلاع الثورة في إيران. بل يمكن القول إن تأسيس «حزب الله» وتسليحه كانا من النتائج المترتبة على وجود هذا الخلل وليس من الأسباب التي أدت إليه. ولأن تصحيحه يحتاج وقتاً طويلاً وإعداداً جيداً، فقد لا يكون من الحكمة طرحه على جدول أعمال النظام السياسي اللبناني في المرحلة الراهنة، أو فتح ملفات حساسة أخرى من قبيل سلاح «حزب الله» أو المطالبة باستدعاء قواته المشاركة في القتال إلى جانب النظام السوري، إلا إذا اقترن ذلك برؤية شاملة ومتوافق عليها لإصلاح النظام السياسي اللبناني ككل. لذا يفضل التركيز في الوقت الراهن على البحث في سبل تخفيض حدة الاحتقان الطائفي في لبنان كمقدمة للبحث في سبل تخفيف حدة هذا الاحتقان في المنطقة ككل.
لقد تمتع النظام السياسي اللبناني في الأوقات كافة بكم هائل من الحريات لم يتمتع بمثلها أي نظام عربي آخر، ورغم ذلك ظل أبعد ما يكون من الديموقراطية بسبب أساسه الطائفي. ولأن الديموقراطية الحقة تقوم على مبادئ المواطنة وعدم التمييز والمساواة التامة أمام القانون، فمن الطبيعي أن تتناقض في شكل مطلق مع أي منظور طائفي. وفي تقديري أن وجود عون والحريري معاً كرأسين للسلطة التنفيذية في النظام اللبناني في تلك اللحظة الاستثنائية النادرة يتيح أمامهما فرصة فريدة لدفع مشروع التحول الديموقراطي في لبنان إلى الأمام.
من مصلحة عون، بوصفه رئيساً للدولة اللبنانية للسنوات الست المقبلة، استثمار علاقة التحالف التي ربطته بـ «حزب الله» منذ فترة ليست قصيرة، وعلاقة العمل التي باتت تربطه اليوم بالحريري بعدما أصبح رئيساً للحكومة، لدفع الجهود الرامية إلى تغيير بنية النظام اللبناني بنقله من حاله الراهنة القائمة على المحاصصة الطائفية إلى الحال الديموقراطية المأمولة والقائمة على مبدأ المواطنة. فهذا هو التحدي الأكبر الذي سيواجهه النظام اللبناني في المرحلة المقبلة. وإذا كانت عدوى النظام اللبناني القديم المؤسس على الطائفية قد انتقلت بسرعة إلى البيئة العربية المحيطة، خصوصاً عقب الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، فليس مستبعداً أن ينتقل ترياق النظام اللبناني الجديد المؤسس على المواطنة إلى البيئة العربية المحيطة ويصبح مصلاً فاعلاً في وقف حال التدهور الراهنة في المنطقة وتغيير بوصلة الأحداث فيها.