Site icon IMLebanon

ما يحدث اليوم في لبنان عرفه في التاريخ تكراراً

 

عندما استولى جماعة عثمان بن طغرل على هذه المناطق عام 1516 بقيادة السلطان سليم، طرح المماليك سؤالاً كبيراً لتلك المرحلة: ما هذا السلاح الجبان الذي تسمّونه «مدفعية»؟ وكان المماليك القفقاسيون يَمتطون الخيل كاللهب ويقاتلون بالسيف. إنكسر المماليك، وهَبّت قيادات لبنانية، منها المعنيون الدروز الى جانب المنتصر وساعدوه بأسلحتهم وخضعت المتن وكسروان وجبيل للعثمانيين، وأطلّ برأسه شيوخ آل حمادة وأمراء بني حرفوش، وكلتاهما شيعة (كان يُقال لها مْتاولة)، ونَكّلوا بالمنطقة عكس ما نراه اليوم من هبّة على الشيعة و»حزب الله» من دون سبب مقنع. ولكزتُ حصان التاريخ حتى أسرع الخطى!

يومها، عقدت مبايعة أكثر مِن خَطرة لصالح العثمانيين في تَنكّر عارٍ للآية الموحاة «وانزلناه قرآناً عربياً بلغة عربية مبينة»، ولم تُقل الآية بلغة عثمانية أو فارسية، أي أنّ الخلافة المسلمة العربية المثقّفة ستعقد للعرب وستظلّ هكذا حتى منتهى الدهر. وهذا ما حصل مع المسيحية التي استلمناها على يد إنسان وإله شاب رغم صراعه المستميت ضد الاوروبي، مدعوماً من أقسام يهودية شرقية تأثرت بأنبيائها القافزين فوق المعقول، وصوّروا انّ المسيح منهم وهم لا يعترفون به بحسب أوامر هيرودوس، ولهذا جرى تصدير الفكر المسيحي الى الغرب حيث أعادوا تقسيمه (الى بروتستانت) وبَنوا الكاتدرائيات الضخمة، مع انّ بيئة المسيح التبشيرية والكفاحية هنا، وكنيسة قيامته على هذه الارض، وقبره هنا، والأهمّ تعذيبه الموخز على هذه التربة وعلى الجبل ألقى عظته العالمية ومنها: «طوبى للفقراء لأنهم سيشبعون». وللدلالة على أنه جاء من اجل الانسان صرخ: «مملكتي ليست من هذا العالم» أي أبدياً اهتمّ بالمرء. وعلى هذا الجبل، جبل لبنان السامق والجميل عاشت طائفتان وَرِعتان في تعاليمهما وتصرفاتهما، الدروز في وادي التيم والشوف والمسيحيون في بقية جبل لبنان من الشوف الى جبة بشري، عاشتا في حمى «اوزيريس» الخصب، والذي أسال الاخضلال والخضرة في التربة ضد نيفون المدمّر والمعادي، ويضيق الخناق على هذه الرحاب التي باركتها الطبيعة.

 

ولي في شعر الكازاخي ستانيسلاف لونايف أفضل شاهد:

«كان مسالماً

عند حافة البحر الميت

على أرض الجليل

اجترح المسيح عجائبه»

 

في لبنان، وتحديداً في جبل لبنان (وأنتم تقولون عنه انه وطن صغير)، حصلت امور كان ينبغي الّا تحصل لأنّ الديانتين الاسلامية والمسيحية مبنيتين على كلام الله في سِعة عالية من العدالة والانسانية والديموقراطية ودعم المحتاج، إذ ينادي الاسلام بأروع تخصيب بشري في الآية التي تقول: «من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»، وقالت المسيحية المنوّرة: «من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر»، وكان المسيح صديقاً روحياً لمريم المجدلية وهي غير يهودية من المجدل في الجولان المحتل.

 

ولِلتَحاب والعلاقات الودّية المتبادلة بين المسيحيين والدروز برزت هذه الناحية، حين قرّر الامير بشير مهاجمة «عامية لحفد» في قضاء جبيل وزَحف حتى وصل الى جبيل، وهناك استقبله الوجيه العمشيتي طوبيا زخيا وذبح له الخراف من جبيل حتى عمشيت حيث تناول الامير طعامه وشرب كأساً من العرق، ثم تابع طريقه العسكري فأقام معسكراً في قرية غرفين حيث هاجمه المسلحون من المتن وكسروان وجبيل وجبة بشري على ظهور الخيل، فقاتل الامير باستماتة وعناد ولم يبق معه إلّا 300 شخص من الخدم، فتوجّه الأمير تحت ضغط رهاف السيف وشفاره بطلب استرحام للنجدة من الشيخ بشير جنبلاط جد المفكّر كمال جنبلاط والملقّب بـ «عامود السماء»، فأنجَده بـ 3000 مقاتل درزي هو على رأسهم ودخلوا موقعة لحفد (من جبيل 30 كلم) بعد ان غدر بالعاميين أحد الاشخاص وكانت مجزرة، وأخذ العاميون يرمون بأنفسهم مع أحصنتهم من على شير العامية (حوالى 300 فارس عامّي انتحروا)، وكان بينهم امرأة من بشري اسمها ام سابا أخذت تزلغط وتروّد.

 

أول انتفاضة

جرت هذه الاحداث عام 1820، وكانت أول انتفاضة فلاحية مناهضة للاقطاعية في لبنان خلال القرن التاسع عشر. وبعد انهاء المجزرة البشرية في لحفد، تابع الامير والشيخ دربهما نحو الشمال فقتلا وخَوزَقا، ولم ينج منهما حتى رجال الدين. والمسألة تتلخّص في أنّ باشا عكا عبد الله طلب من الامير مضاعفة الضرائب مُرفقاً ذلك بإرسال فصائل مسلّحة الى سفوح جبال لبنان للضغط على الامير، علماً أنّ مسلّحي هذا الشركسي هم من الألبانيين والدالاتييه وحثالة البوسنة.

 

ومقابل خدمة هذا اللبناني الشهم، السّمح الكف والمالك عقارات واسعة، ورئيس حركة دينية جاءت الى وادي التيم بعد خلق المسيحية بأكثر من 1000 عام، واندمجت مع أساسات أخلاقيات شعب تَوطّنَ لبنان هو بشير جنبلاط مؤسّس الديبلوماسية الوطنية ومانح الامير الشهابي كلّ ما فعله على مدى حكمه المشهور بالهرب بسبب مُماحكات وإزعاجات باشاوات المناطق المجاورة، ولولاهم لَما استمر حكم الامير كل هذه المدة. وفي هذه المرحلة كان اسم «الشوف» بـ»جبل الدروز» لا جبل لبنان، علماً انّ عدد الدروز كان أقل من نصف عدد الموارنة. صحيح كان الدروز ينفّذون رغائب الموارنة بالقتل، من مثل إنهاء حياة أولاد أبرز عملاء المير الدموي يوسف شهاب في جبيل.

 

عصور تتشابَه

وهمزت حصان التاريخ فسار الى الامام. يقف كل إنسان على عتبة مصيره لكن هل يقرع الباب وما وراء ذلك الباب؟ وكيف يدخل؟ وما الذي ينتظره في الداخل؟ لا أحد يعلم بذلك. والعصور تختلف. تكون بعضها عصور تغييرات تاريخية حاسمة، وبعضها عصور اضطرابات شعبية، وبعضها عصور كوارث كما يجري في لبنان التاريخي حيث نادى بطل «نشيد الانشاء» الى خلوة نسائية، بالقول:

 

«لأنّ المضاجعة أنهَكتني

طوال الليل

أعطني كأس عصير

من تفّاح لبنان»

 

وكان تفاح لبنان وسطي الحجم أحمر في إحدى جهاته، على مذاقٍ سكّري ناعم.

 

مَن يتمعّن في خريطة لبنان التاريخية يرى انّ ما يحصل اليوم من سرقات متوحشة لمداخيل الخزينة وتهريب أموال بحماية مراقبي المال، واستدراج غلمان سياسة للتدخل في لبنان، وتهديد بمصيرٍ حالِك، واغتيالات لأشخاص يعرفون شيئاً قليلاً عمّا يحصل في المرفأ او في غيره، ويشيدون بالتطبيع مع المرذولة اسرائيل و»الزط» الأوروبي نتنياهو (ليس في إسرائيل يهودي شرقي واحد على رتبة المسؤولية ولست ضدهم)، كل هذا حصل في القرون السابقة. في هذه الفترة قام الدروز بتوضيح موقفهم للمسيحيين، إذ انهم ما قاموا لمقاتلتهم إلّ بأمر الحكومة التركية، وانهم لو لم يرضخوا لإرادتها لكانوا في خطر قيام المسيحيين عليهم بمساعدة الاتراك. قال سعيد جنبلاط، ابن الدبلوماسي اللبناني بشير جنبلاط المخنوق في سجن عكا بموافقة الامير بشير، لغندم السعد: «انتم حاسبينها ونحنا حاسبينها وكلنا وقعنا فيها». وقال الشيخ حسين تلحوق للشيخ دبلين الخازن: «إستخدمتنا الدولة التركية لنضرب بعضنا بعضاً حتى تتمكّن من الفتك بنا، بعد أن عشنا مئات السنين كالأخوة».

 

يقول النابغة اللبناني جبران خليل جبران: «إبن الشرق الموروث يبني قصره من أجساد الفقراء. الكاهن يقيم الهياكل على قبور المستسلمين المؤمنين، والأمير يقبض على ذراعي الفلاح المسكين، والكاهن يمدّ يده الى جيبه والحاكم ينظر الى أبناء الحقول عابساً، والمطران يلتفت نحوهم عابساً، وبين عبوسة النسر وابتسامة الذئب يفنى القطيع».

 

الحملة على المفكّرين

في هذه المرحلة، أي قبل جبران، ازدادت حملة العناصر التركية ضد آية بارقة انبثاق أمل على أيدي المفكّر بطرس البستاني والصحافيين جرجي زيدان وخليل خوري، رغم علاقته المتبحّرة بالباب العالي وصدور مجلة «المقتطف» على يدَي فارس نمر ويعقوب صروف قبل انتقالها الى القاهرة هرباً من الدب التركي، وإصدار رزق الله حسون جريدة «آل سام» في لندن بهدف تقبيح السياسة العثمانية.

 

وكان هذا يقلّد الشاعر الهجائي الفرزدق في الهجو المرير للاتراك. وفي كل ذلك حاولت بعض الصحف إصلاح تقويم انفجارات التعصب والجهل، منها: «المقتطف» «ثمرات الفنون» «البشير» البيروتية، لكنّ لبّ الموضوع استمر بين القبيلتين المسيحية والدرزية، كما هو اليوم.

 

حاولت الصحافة استتباب الامور من ضمن كورس عام، لكنّ محاولات إدخال الاتزان الى الحياة اللبنانية استمرّ، ومن هؤلاء الرئيس الاستثنائي والمميز كميل نمر شمعون بإيجاده إطار مهرجانات بعلبك، حيث برز الاخوان رحباني مع فيروز ووديع الصافي وصباح، وإنشاء محطة كهرباء جونيه التي تعمل على الموج، وبناء ملعب بيروت الدولي بسِعة 50 ألف متفرّج ووقف سجن المدير الصحافي، وكل ذلك حصل في منتصف الخمسينات يوم كانت مهابط الطائرات في الدول العربية مدارج مرصوصة من الرمال. الى ذلك، كان الرئيس كميل شمعون يفاجئ ندوات ومحاضرات العلامة عبدالله العلايلي، فيحمله على كتفيه ويأخذ بالرقص به.

 

بلا النصارى خسارة

ولمّا حصلت أحداث آخر عام 1958 من عهد شمعون لم يكن الرئيس السبب، بل «فتى العروبة الأسمر» الرئيس جمال عبد الناصر، الذي أرسلَ من دمشق المخابراتي احمد الخطيب، فاغتال صاحب الجريدة الديموقراطية «التلغراف» نسيب المتني من دون سبب قرب منزله، وقال الصحافي يومها كلمته المشهورة: «قتلوني يا ميشال»، أي الصحافي ميشال الحلوة الذي كان يقود السيارة ليلاً قرب الساعة الثالثة. لا تجنحوا مالاً ضد رهافة لبنان التاريخية، وحافظوا على عصمته الموروثة بين المسيحيين والدروز وهم أساس الميثاق الوطني، لا ما حصل بين الرئيسين بشارة الخوري ورياض الصلح وكلمة الدروز في الجبل الشوفي ما زالت صَدّاحة «بلا النصارى خسارة».

 

التاريخ يعيد نفسه بعد 500 عام

في هذه الايام المسنونة كلهب نار، ما زالت تتكرر تَنتيعات وتلطيشات ما حصل منذ 500 سنة (وعندنا في الجبل اثنان من خارج السلطة الرسمية) الدكتور سمير جعجع والسياسي وليد جنبلاط. الاول هَدر من بشري الحلوة صائحاً بملء الصوت «لا إقطاعية بعد اليوم»، والثاني سار على عِلم قيافة جده الديبلوماسي بشير جنبلاط، قبل ان يتبدّل مع انه يملك الكثير والعميق من الفلزات التأملية.

 

بَقي لي ان أنشد مع «صنّاجة العرب» الشاعر الجاهلي الاعشى منذ 1600 عام:

وكأسٍ شربتُ على لذة

وأخرى تداوَيتُ عنها بِها