Site icon IMLebanon

عنّا نحن الغلابى التائهين بين الرواية والتقاليد والتاريخ

 

«يا غلبان بلدنا يا فلاح.. يا صانع يا فلاح .. يا صانع يا شحم السواقي.. يا فحم المصانع.. ما تتعبش عقلك بشغل السياسة.. وشوف انت شغلك بهمة وحماسة وعلّم عيالك فضيلة الرضى.. لأنو إحنا طبعاً عبيد القضا ورزقك ورزقي ورزق الكلاب! ده موضوع مؤجّل ليوم الحساب» (أحمد فؤاد نجم)

من جماليات الرواية وإمتاعها وسهولة وقعها على السامعين هو كونها لا تحتاج إلى إثباتات لصحتها، ولا لصحة الأحداث التي ترويها، كل ما تحتاجه الرواية هو جملة من البديهيات التقليدية، ومن ثم تتابع فيه بعد المنطق حتى الوصول إلى الخاتمة. هذا بالطبع يشمل الروايات التي لا تستند إلى الخوارق، امّا تلك التي تحمل في طياتها أمورًا خارج السياق المادي، أي خارقة ما هو طبيعي، فهي عادة تدعى أساطير، وهي بالتأكيد تحمل كثيراً من الإمتاع، وربما العبر للسامعين. الإشكال يقع عندما تختلط الأمور عند معظم الناس، فيعتبرون الروايات والأساطير حقائق تاريخية لا تحتاج إلى أي مراجعة أو تدقيق في صحة حدوثها، ولا حتى التدقيق في العبر منها. لكن الكارثة تقع عندما يعتبر البعض أن تلك الروايات والأساطير هي التي توجّه وتتحكم بعلاقاتهم في الحاضر والمستقبل.

 

أما التاريخ، فهو رواية من نوع آخر. فهو، من حيث المبدأ، سعي لتوثيق الحدث بشكل دقيق من قبل بشر عايَشوه. لكن البشر بشر في النهاية، وهم سينقلون الخبر أو يوثقونه بناءً على عوامل ذاتية وانتماءات ومصالح وحتى حالة نفسية. هذا يعني بالطبع أن ما يصلنا اليوم من تاريخ موثق ومكتوب لا يمكن بالمعطيات المتاحة التأكد من صحته إلى درجة اليقين. ما يمكن، حسب علماء التاريخ الحديث، هو رفع قيمة الرواية التاريخية على مستوى احتمال الصحة من خلال بضع معطيات تدقيقية، لا تؤكد الرواية بكاملها، ولكن تجعل منها عالية الاحتمال بالمجمل.

 

وسائل التدقيق تأتي كما يلي:

 

1 – على المؤرخ أن يستند إلى شواهد صالحة.

2 – الشواهد يجب ان تكون إمّا من وقت وقوع الحدث، أو تكون قريبة منه إلى أقصى ما يمكن. وهنا يعني أن يكون الراوي شاهد عيان للحدث، أي أنه هو نفسه من يرويه أو يوثقه. وأن يكون توثيق الحدث حاصلاً في أقرب وقت من حدوثه، حتى لا يسقط شيء بحكم النسيان، أو الإهمال، أو الاستنساب.

 

3 – يجب أيضا أن تتعدد مصادر الرواية التاريخية عن الحدث نفسه من شهود عيان عايشوا الحدث حتى يتم التحقق من تقاطع المعلومات.

4 – يجب أن تكون تلك المصادر غير مرتبطة ببعضها بعضا، أي أن لا تجمعها صلات من أي نوع تجعل من رواية الحدث موحدة بفعل الاتفاق أو التأثير بين الأفراد.

 

5 – لو وصلت الرواية من مصادر عدة، لكنها في الأساس نابعة من مصدر موحد، أي منقولة عنه، حتى ممن كانوا قريبين من الحدث، فهذا يعني أن المصدر يبقى واحدا وبالتالي تهبط قيمته كمصدر موثوق.

6 – صحة الرواية يجب أن تعتمد على تعدد المصادر المستقلة، لكنها يجب أن تتقاطع وتتفق بنحو مقنع في سرد الرواية، فلا يمكن الاستناد إلى مصادر متناقضة في رواية حدث بذاته، ومن ثم اعتماد رواية دون أخرى، إلا إذا تم الاستناد إلى وسائل دعم أخرى لرواية من دون الثانية.

 

7 – يجب التأكد من أن تلك المصادر لا تميل في سرد الرواية إلى طرف دون آخر، وفي حال حصل ذلك، فمن الواجب مقارنتها مع روايات من الطرف الآخر، ومن ثم استنتاج بعض الحقائق ما أمكن من خلال ما يتقاطع بين الروايات.

8 – لا يمكن الاعتماد على نصوص كُتبت عن طريق التقليد الكلامي المنتقل من جيل الى آخر، لأن كثيراً من الشوائب ستدخل على الرواية الأصلية، إن صحّت في الأساس، وبالتالي تدخل فيها عوامل السهو والخطأ والغرضية السياسية والاجتماعية والشخصية من معتقدات واقتناعات مسبقة.

 

9 – على الرواية المنقولة أن تكون مصحوبة بآثار مادية قائمة تؤيدها. هذا يشمل النقوش والقطع النقدية والأبنية المشيدة والأواني المستعملة وشواهد مادية عدة أصبحت اليوم متوافرة في علوم التاريخ التي تستند إلى التحقيق الجنائي ودرس الحمض النووي واضمحلال مكوّن الكربون والأحافير على أنواعها.

 

على رغم من كل ما سبق، فهناك مبدأ علمي تاريخي آخر يسمّى التاريخانية، وهو علم له رواده الكبار، ظهر في القرن التاسع عشر، هدفه البحث في التاريخ بنحو مختلف عن بناء الروايات الماورائية، ووضع التاريخ الفردي والجماعي في إطار أوسع. يسعى هذا المبدأ للقول أن كل ما في العالم الإنساني، كالدولة والمجتمع والأخلاقيات والأدب والعلم، هو جزء مما يبني التاريخ، أي أن التاريخ ليس عنصرًا منفصلًا عن التأثيرات اليومية. من الواضح أن الأفعال البشرية تأخذ محلّها في الزمان وتؤثر وتتأثر به. التاريخانيون أعطوا معنى أعمق للتفاعل بين اليومي والتطور التاريخي. من هنا فإن كل القيم الإنسانية والمؤسسات تتغيّر بفعل تحولات الزمن، فلا شيء في العالم الإنساني مُخلَّد. هذه النقطة تجد نفسها في مواجهة شرسة مع ميل البشر الطبيعي الى إعطاء صفة الخلود للقيَم والمعتقدات والمؤسسات القائمة بمختلف أشكالها، وبالتالي بناء قيم ماورائية لهذه المؤسسات تجعلها ثابتة في التاريخ كما في المستقبل، أي كأنها صحيحة بالنسبة الى العالم أجمع في الماضي والحاضر ولكل زمان.

 

التاريخانيون يعتبرون أن كل القِيَم والمؤسسات هي ناتجة من الزمان والمكان، وبأنها هي أيضا ستختفي أو تتطور في مسار التاريخ. كل شيء في الحياة الإنسانية ينبغي أن يتم فهمه ضمن سياقه الاجتماعي التاريخي الخاص، أي أنه يجب الاعتماد على السياق الاجتماعي والاقتصادي والطبيعي لكل الظواهر التاريخية والاجتماعية. فنحن لا نوجد كبشر ومجتمع من دون سياقنا بمختلف وجوهه. نحن قد نغيّر حتى هويتنا الشخصية في سياق مختلف في كل مرحلة، وحتى قد تتعدد وجوه هوياتنا بناءً على ما هو موضع اهتمام لدينا في كل لحظة من حياتنا. هذه التعددية في الهوية تتضاعف بنحو عظيم مع تشابك العلاقات القائم اليوم في العالم. فقد تكون هوية الفرد مجتمعية أو طائفية أو وطنية أو مهنية أو حتى رياضية وثقافية… هذه النقطة تتعارض أيضا مع ميلنا الطبيعي الى تصنيف الظواهر التاريخية الاجتماعية في شكل ثابت يؤمن لاقتناعاتنا الأمان من الحيرة في إتخاذ القرارات. أي أن معظم الناس يحسبون أن الهوية الشخصية والاجتماعية مستقلّة عن سياقها، أي ثابتة في الزمان والمكان. علم التاريخانية يقول اننا كلما كنا واقعيين، كلما تمكنّا من التدقيق في موضوعاتنا، وكلما وجدنا أن الهوية تعتمد على السياق ليس إلا.

 

هنا، وفي أسفل اللائحة، يأتي نوع من التاريخ المرتبط بالرواية الشعبية وما هو متوارث في المجتمع، وهو عادة الأسهل للحفظ والأكثر خطورة على المزاج العام وحتى على مسار الأحداث التي تصنع التاريخ. هي جملة من الأساطير التي تتحول شعارات بسيطة، أو حتى كلمات رمزية تتلاعب بالأحاسيس وتجعل من الجموع في حالة تشبه التنويم المغناطيسي. هذه الرواية بالذات هي ما يستخدمه قادة المجموعات الملهمين الشعبويين في قيادة ناسهم.

 

ما علينا في لبنان إلا التفكير مليّاً في هذا الواقع لنفهم كيف ما زلنا حتى اليوم، نحن الذين نتفاخر في شكلٍ مرضي بثقافتنا، أسرى الأساطير وكلام القائد الشعبوي الذي يستدرجنا إلى الدرك الأسفل من جهنم.