من الوجهة السياسية كان “التيار الوطني الحر” هو من بادر الى فتح ملف المتعاملين الفارين إلى اسرائيل يوم زار رئيسه جبران باسيل بلدة القليعة وأثار موضوع عودة المبعدين. تحدث عن “حقهم بالعودة إلى وطنهم، وان وزير العدل ألبرت سرحان سيتقدم بمشروع مرسوم لوضع آلية تطبيق للقانون الذي يساعد على عودة المبعدين وعلى بدء مسيرة العودة، آملاً في أن “نستطيع ردهم في ظروف أفضل (…)”.
انطلقت مواقف باسيل من وثيقة التفاهم التي وقعها “التيار” مع “حزب الله” والتي تنص على أن “حلّ مُشكلة اللبنانيّين الموجودين لدى إسرائيل يتطلّب عملاً حثيثاً من أجل عودتهم إلى وطنهم، آخذين بالإعتبار كل الظروف السياسيّة والأمنيّة والمعيشيّة المحيطة بالموضوع، لذلك نُوجّه نداء لهم للعودة السريعة إلى وطنهم (…)”.
في تقدير البعض كان كلام باسيل بمثابة الإشارة لإعادة العميل عامر الفاخوري إلى لبنان لسقوط التهم الموجهة إليه بفعل مرور الزمن. تمكن محامي الفاخوري من تبييض سجله واستحصل على نسخة من النشرة الخاصة به على هذا الأساس. ونصحه أحد الاصدقاء: “ملفك نظيف بإمكانك أن ترجع إلى بلدك”. وفي اعتقاد بعض المطلعين على القضية عن قرب “لو لم يكن خلفه من دعم عودته وسانده وأمّن له الضمانات لما عاد”.
يوم وصل الفاخوري إلى مطار بيروت لاحظ عسكري الأمن العام وجود إشارة ملغاة على ملفه، فراجع الضابط المناوب الذي راجع المسؤول عنه. سُمح له بالدخول بعد حجز جواز سفره بهدف استدراجه، وحين ذهب في اليوم الثاني لاسترداده تم التحقيق معه ليتبين أنّ فعل العمالة لديه بقي متمادياً فهو ظل يستخدم بطاقة “laisser passer” الإسرائيلية إلى حين حصوله على الجنسية الأميركية ما يعني قانونية إصدار مذكرة توقيف بحقه رغم كل الإعفاءات التي نالها بفعل مرور الزمن.
تولى المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم متابعة الملف من بدايته، وبعد شيوع الخبر وحملات مواقع التواصل، وصدور المواقف المنددة والتي استتبعت بصورة للفاخوري إلى جانب قائد الجيش جوزف عون، بدا وكأن “حزب الله” التزم الصمت حيال الملف وهو ما خلف تفسيرات مختلفة ان لناحية الخلاف في وجهات النظر حول معالجة ملف العملاء بينه وبين “التيار” أو لناحية محاولة زج قائد الجيش في القضية لخلفيات سياسية.
غير أنّ “حزب الله” المتابع للملف منذ بداياته الأولى، تقصّد التأخر في إصدار موقف من القضية “كي يطّلع على الملابسات”. كان واضحاً بالنسبة إليه أنّ قضية الفاخوري “مختلفة تماماً عن قضية المبعدين. هو ليس قصة زوجة أبعدت مع زوجها وقررت العودة إلى اهلها، ولا قصة عملاء تم توقيفهم في لبنان وصدرت بحقهم أحكام”.
تفاهم “حزب الله” – “الوطني الحر”
ومنذ وقع وثيقة التفاهم مع “التيار الوطني الحر”، حرص “حزب الله” على مسألة إخضاع من يريد العودة إلى المحاكمة، وسلّم الأمر للقضاء رغم استيائه من بعض الأحكام المخففة. لكن البعض عادوا وحوكموا فعلاً.
لكن ما حصل مع الفاخوري أنه كان مقرراً أن يدخل البلد من دون محاكمة تحت عنوان إلغاء وثائق الاتصال. ولو كان أقدم على تسليم نفسه لصار الموضوع في سياقه الطبيعي ولما كانت هناك ملاحظات على المسألة.
من ساهم في عودة الفاخوري كان ينتظر انتهاء مدة محكوميته وعودته سريعاً إلى لبنان، وأهمية ما حصل بالنسبة إلى “حزب الله” أنه من الآن وصاعداً فإنّ أي عميل حتى ولو قدمت له التسهيلات السياسية فهو لن يتمكن من العودة إلا بعد الخضوع للقضاء. وإلا ما الذي يدفع عميلاً مستقراً في أميركا إلى العودة إلا ليشكل جسر عبور لآخرين كي يعودوا من باب خلط الجانب السياسي بالجانب الأمني.
حصل التفاهم مع “التيار” على تطبيق القانون في ما يتعلق بالعائدين وتم تصنيفهم كفئات: فئة غادرت غصباً عنها، وثانية تضم أولاد العملاء وزوجاتهم، وثالثة العملاء الذين ارتكبوا جرائم وهذه فئة تجب محاكمتها.
يرفض “حزب الله” محاولات الصيد بالمياه العكرة بينه وبين “التيار الوطني”. فالتفاهم بينهما “لا يزال قائماً في الشق المتعلق بالعملاء لناحية أهمية عرضهم على القضاء ومنهم الفاخوري”.
غير أنّ مسألة الفاخوري لم تقف عند حدها القضائي، وعلى الهامش بدا وكأن ثمة معركة سياسية يخوضها “التيار الوطني الحر” من خلال التصويب على الجيش، وفسّر صمت “حزب الله” وكأنه ملاقاة لـ”التيار” في هذه النقطة، لا سيما بعد انتشار الصورة التي تجمع فاخوري مع قائد الجيش العماد جوزف عون في سفارة لبنان في واشنطن وما استتبعه من تداعيات وتعليقات.
لم يكن الأمر يحتاج إلى تحليلات، كان واضحاً من خلال قضية الفاخوري وغيرها كيف يحصل التصويب على قيادة الجيش وتصوير المسألة وكأنها محاولة لتشويه صورة قائد الجيش الذي يعمل على الأرض بعيداً من المهاترات السياسية، وكأنّ هناك من له مصلحة بالتصويب على المؤسسة العسكرية بشخص قائدها لغايات متصلة ربما بملف رئاسة الجمهورية.
والأجواء التي تزداد تفاقماً في هذا المجال بلغت مسامع “حزب الله” الذي ينأى بنفسه عن ربط المسائل ببعضها، وفي ما يتعلق بصورة قائد الجيش وفاخوري فالقضية تنتهي عند البيان التوضيحي الذي أصدره قائد الجيش حول الملابسات. إكتفى بالتوضيح مؤكداً لمن يعنيهم الأمر أنّ الموضوع ليس له أي بعد سياسي، مع حرصه على المؤسسة العسكرية، وأنّ للمسألة بعداً وطنياً يتعلق بعميل ارتكب جرائم قتل وتعذيب بحق لبنانيين… وطالما أنّ الملف سلك مجراه القانوني فالأمور أصبحت قيد المتابعة في بُعدها القضائي.