مسرح العمليات كان مسرحاً بالفعل. لم تمضِ ساعات قليلة على عملية «حزب الله» ضد قاعدة عسكرية إسرائيلية وآلية أو آليات في قاعدة بالقرب من مستوطنة موشاف أفيميم، على بعد بضعة كيلومترات من الحدود الجنوبية اللبنانية الإسرائيلية، حتى تبين أن ما شهدناه كان مسرحاً معداً بعناية.
من الصعب الزعم أن «حزب الله» كان جزءاً من لعبة توزيع الأدوار، وأن العملية التي انتهت بلا أي إصابات، سوى بعض الدمى، هي ما قصد الحزب تنفيذه بالفعل. الأرجح أن «حزب الله» سقط ضحية خدعة عسكرية هندسها الإسرائيلي ونفذها بدقة فائقة، جعلته يعتقد أنه نفذ عملية ناجحة توازي في نتائجها ما تعرض له في سوريا ولبنان، خلال أقل من أربع وعشرين ساعة.
ففي سوريا استهدفت إسرائيل خلية تابعة لـ«الحرس الثوري» الإيراني، متخصصة في تطوير الهجمات بالطائرات المسيّرة، ويقودها – بحسب ما كشف الجيش الإسرائيلي – الجنرال الإيراني جواد غفاري الذي يعمل تحت قيادة قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني، ويعمل تحت إمرته عدد من الكوادر، بينهم ياسر أحمد ضاهر وحسن يوسف زبيب، اللذان قتلا في الغارة الإسرائيلية. اللافت أن إسرائيل هي من أعلنت أسماء القتلى قبل أي طرف آخر، وهو ما يعني أن غارة دمشق عملية ضد أهداف معروفة مسبقاً، وأن حجم الاختراق الأمني الإسرائيلي بالغ العمق.
أما في لبنان، فلا يزال الغموض يحيط كثيراً من تفاصيل الطائرات المسيّرة التي انفجرت في عمق الضاحية الجنوبية لبيروت، عاصمة دولة «حزب الله»، وما إذا كانت المسيّرات إسرائيلية، أم تمت السيطرة عليها وسُيّرت نحو أهداف بخلاف إرادة أصحابها. كما لا يبدو واضحاً ما كان الهدف من ورائها.
غير أنه في سوريا كما في لبنان، رفعت إسرائيل التحدي في وجه «حزب الله»، وتحديداً في وجه روايته عن نفسه وعن الآخرين، وعن روايته للصراع وتوازناته.
يعرف «حزب الله» أهمية الرواية في الحرب. منذ البداية صرف كثيراً من الجهد والمال في مجال صناعة الرواية عبر ذراع الإعلام الحربي. وهو يعرف أن في الحروب المعاصرة لم تعد المسألة محسومة لناحية أن المنتصر يكتب رواية الحرب. ثمة حرب أخرى هي حرب الروايات. أجاد «حزب الله» في هذه المسألة لعقود؛ لكنه بدا متعثراً في زمن «السوشيال ميديا». ما عادت «قناة المنار» التابعة له قادرة على تزخيم الانتصارات والتحكم في السياقات السردية للحرب وللعمليات العسكرية. وما عادت أناشيد التعبئة كافية لتصدير صورة واحدة منقحة معتنى بتفاصيلها، عن واقع الجماهير المرصوصة خلف النصر الأكيد.
صورة نصر الله التي يختصرها الشعار الدعائي «الوعد الصادق»، أصيبت بكثير من التفسخات جراء العملية الأخيرة. بدا الصراخ والصوت المرتفع الذي سبقها في خطابيه أعلى بكثير من سقف النتائج التي تحققت، في عملية بلا إصابات. بدا مخدوعاً من الإسرائيلي، مسبوقاً بخطوات، ومحشوراً في زاوية اختراع رواية للنصر لا تعينه عليها الوقائع. الدمى التي اكتشف «حزب الله» أنه استهدفها في الواقع، ونقلت أجسامها بشكل مسرحي من موقع العملية، كانت موضع تندر من قبل مناصريه على مواقع التواصل الاجتماعي قبل العملية، لتقع المجموعة المهاجمة في الفخ نفسه.
أما صورة بيئة المقاومة التي دأب إعلام «حزب الله» على العناية برواية واحدة عنها، هي الصمود والتجرؤ والاحتفال الدائم والتعالي عن صغائر الدنيا من أرزاق وأبناء، لصالح الخير الأعلى وهو النصر الإلهي، كل هذه الصورة خرقتها بضعة فيديوهات لناشطين جنوبيين نقلوا بالفيديو عبر مواقع التواصل الاجتماعي فيديوهات لنزوح كبير من القرى الجنوبية، تحسباً لاتساع رقعة المواجهة وتدحرجها نحو الحرب. فيديوهات حطمت «الرواية الرسمية» المصممة بعناية، والممسوكة بعصب تعبوي شاهدنا بقاياه عبر قناتي «المنار» و«الميادين»، وفي الاحتفاليات المنظمة في الضاحية الجنوبية لبيروت. غير أن ما علق في الأذهان هي تلك الأشرطة القصيرة التي أظهرت الرعب الطبيعي للناس، من حرب تلوح في الأفق، وأهوال تلح في الذاكرة. صورة صفوف السيارات الطويلة تُقاد بتوتر واضح والمطاعم التي فرغت من روادها، انتشرت كالنار في الهشيم، وبدت نصاً بصرياً أكثر حيوية وصدقاً من بلادة الكلام المكرر والمعلب، على ألسنة من استصرخوا عند الحدود.
أما الصورة الثالثة التي أصابتها شظايا العملية الأخيرة لـ«حزب الله»، فهي صورة «توازن الرعب» التي دأب «حزب الله» على الترويج لها، منذ انتهاء الأعمال الحربية صيف عام 2006، وامتناعه مُذَّاك على التورط في مواجهة جدية مع إسرائيل.
الحقيقة أن توازن الرعب ليس سوى شعار معلب آخر. لا يختلف اثنان على أن لـ«حزب الله» القدرة على إيذاء إسرائيل في أي حرب مقبلة. ولا شك أن ترسانته تطورت كماً ونوعاً، غير أن القفز من هنا إلى معادلة توازن الرعب، هو قفز هائل فوق وقائع ومحددات كثيرة. توازن الرعب المزعوم لم يردع إسرائيل عن المجازفة بضرب إيران وأذرعها في سوريا والعراق ولبنان، ضربات فيها كثير من المغامرة والتجرؤ على ما يسمى قواعد الاشتباك، ومن دون حسابات كثيرة، والأرجح أنها ستستمر بذلك وأكثر.
وصلت إسرائيل إلى قلب الضاحية، ورد «حزب الله» رداً شديد التواضع، وبمثل هذا التواضع سيتعامل مع معادلة الخرق الجوي، حتى ولو طال مسيّرة أو أكثر؛ لأنه لن يستطيع تغيير مسار الأمور.
«حزب الله» يخسر حرب الرواية رويداً رويداً، وهذا أخطر عليه من خسارة مواجهة هنا أو مواجهة هناك.