تحوَّل تهديد الصواريخ الدقيقة الى كابوس يضغط على المؤسستَين السياسية والأمنية في كيان العدو. وبات حضوره أكثر تأثيراً في تقديرات وخيارات مؤسسات القرار. واحتل محور الخطط العملانية للجيش، وبؤرة جهود الأجهزة الاستخبارية. ومع أن القيادتَين السياسية والعسكرية تُجمعان على كون تهديد الصواريخ الدقيقة يحتل المرتبة الثانية بعد التهديد النووي، على الأمن القومي الإسرائيلي، إلا أنه من الناحية العملية يحتل رأس اهتماماتهما، انطلاقاً من كونه التهديد الأكثر إلحاحاً ويمثّل التحدي الأكثر تماساً مع نشاطات كيان العدو في كل الساحات. نتيجة ذلك، تسعى إسرائيل الى إحباط مساعي الجمهورية الإسلامية الإيرانية في دعم حلفائها في المنطقة بهذا النوع من القدرات. وأطلق العدو تسمية «المعركة بين الحروب» على مسعاه، ويسخِّر لهذه الغاية أقصى جهوده وإمكاناته الاستخبارية والتكنولوجية.
المكانة التي يحتلها هذا التهديد، على المستويَين الرسمي والشعبي، دفع معاهد الأبحاث ووسائل الإعلام الإسرائيلية الى تناوله كقضية رئيسية، من زاوية مخاطره وتطوره وانتشاره وخيارات مواجهته. ولم تكن الحلقة التحقيقية التي بثّتها قناة «كان» («القناة الأولى» سابقاً) في التلفزيون الإسرائيلي، تحت عنوان «الصواريخ الدقيقة… خطر واضح ودقيق»، إلا انعكاساً للمخاوف المتفاقمة في إسرائيل من التهديد الذي تمثّله، وخاصة أن هذا النوع من القدرات بات يحتل موقعاً أساسياً في استراتيجية محور المقاومة، الدفاعية والهجومية والردعية.
ما أضفى على هذه الحلقة المزيد من الأهمية، هوية وتخصص الشخصيات التي شاركت فيها، ومن أهمهم رئيس الوزراء ووزير الأمن السابق إيهود باراك، ورئيس شعبة العمليات اللواء أهارون حاليفا، ورئيس قسم الأبحاث في الاستخبارات العسكرية (آمان) العميد درور شالوم، ورئيس معهد أبحاث الأمن القومي اللواء عاموس يادلين، والمعلق العسكري في صحيفة هآرتس عاموس هرئيل، والمعلق العسكري في صحيفة يديعوت أحرونوت يوسي يهوشع، ورئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) السابق ديفيد بترايوس (وهو أيضاً القائد السابق للقيادة المركزية في الجيش الأميركي).
لم يكن وصف رئيس شعبة العمليات في الجيش الإسرائيلي اللواء أهارون حاليفا، لتهديد الصواريخ الدقيقة بأنه «تهديد حقيقي على دولة إسرائيل»، إلا ترجمة لرؤية المؤسسة العسكرية. وحدّد موقعه بدقة في سلّم التهديدات، مشيراً الى أنه «التهديد الثاني بعد النووي»، وهو ما يعني أنه يحتلّ التهديد الرقم واحد في منظومة الأسلحة التقليدية. وهو ما يتطابق مع توصيف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو خلال السنة الماضية.
ولهذه الغاية، تابع حاليفا أن إسرائيل تستثمر في مواجهته إمكانات غير قليلة. وردّاً على سؤال عن المعنى المقصود بكون الصواريخ الدقيقة تشكل تهديداً استراتيجياً، أوضح ذلك بأنه «توجد لأعدائنا في هذه اللحظة قدرة على محاولة إلحاق الضرر بمنشآت وببنى تحتية حيوية لأداء دولة إسرائيل». وبنفس المنطق، حدَّد رئيس معهد أبحاث الأمن القومي اللواء عاموس يادلين أن «مشروع دقة الصواريخ هو التهديد الاستراتيجي من الدرجة الأولى على إسرائيل. وإنه القضية الأكثر أهمية للمجلس الوزاري المصغر (السياسي ــــ الأمني)».
وبلغة ملموسة حول فعالية الصواريخ الدقيقة في المدى والدقة والقدرة التدميرية، أكد رئيس جمعية «درع للجبهة الداخلية»، إيلي بن أون، أن حزب الله يمكنه بسهولة تدمير الكنيست الإسرائيلي. لكن رئيس الوزراء السابق إيهود باراك، ذهب في تفصيل أوسع بالقول إن الصواريخ الدقيقة يمكنها تحقيق «إصابة دقيقة لأهدافٍ نوعية، بنى تحتية حيوية، أو أهداف ذات رمزية عالية… محطات طاقة، منشآت معينة داخل قواعد سلاح الجو، منشآت معينة للحكومة، مبنى وزارة الأمن وهيئة أركان الجيش، وديوان رئيس الحكومة». وتابع باراك في تعريف للصاروخ الدقيق، بأنه «الذي يسقط ضمن مدى عشرة أمتار من الهدف». في الإطار نفسه، رأى رئيس ساحة لبنان في وحدة الأبحاث في الاستخبارات العسكرية (آمان)، العقيد «ج»، أن «الصاروخ الدقيق يمكنه إصابة أي نقطة يريد إصابتها، بمستوى دقة عالٍ جداً جداً». وأوضح ذلك بأنه «إذا أردتُ إصابة مبنى، وبدل أن أطلق الآن خمسة أو عشرة صواريخ يصيب منها المبنى واحد أو اثنان، يمكن إطلاق صاروخٍ دقيق واحدٍ وإصابة هذا المبنى». أما بن أون فاختار توضيح مزايا الصاروخ الدقيق بالقول إنه «مثل سيارة تسير وفق الـ«جي بي إس»، أو تطبيق «وايز». إنه يصيب هدفاً محدداً، هدفاً مختاراً. إنه لا يصيب عبثاً بصورة عَرَضية».
وكشف المعلق العسكري في صحيفة هآرتس، عاموس هرئيل، عن الانطباع الذي تشكل في تل أبيب بشأن مزايا القدرات الإيرانية ــــ بالاستناد الى استهداف منشآت «أرامكو» ــــ بالقول إن «القدرات التي أظهرها الإيرانيون كانت أكبر مما تم تقديره في إسرائيل، وهو ما يفرض علينا الاستعداد لذلك». وفي الإطار نفسه، لفت قائد سلاح الجو السابق، اللواء أمير إيشل إلى أنه «توفرت لدينا فرصة للاطلاع على قدرات الإيرانيين وهم أظهروا قدرات دقيقة». أما حاليفا، رئيس شعبة العمليات، فلفت الى القدرات التدميرية التي انطوت عليها الصواريخ الإيرانية ودقّتها ومداها، مشيراً الى أن المدى الذي قطعته الصواريخ الإيرانية يعني أنه يمكن أن توجّه أيضاً باتجاه إسرائيل. وتوقف رئيس السي آي إيه، السابق، عند الضربة التي تلقّتها «أرامكو»، معتبراً أن إيران أصابت ما أرادت أن تصيبه، وأقرّ في هذا المجال بأن الاستخبارات الإيرانية كانت ممتازة.
وعلى وقع هذه المزايا التي زرعت الرعب في منظومة القرار الإسرائيلي وجعلتها أكثر انكباحاً خلال الفترة الماضية، عبَّر رئيس وحدة الأبحاث في الاستخبارات العسكرية، شالوم، عن مكمن المخاوف الإسرائيلية من أداء إيران، بالقول إنها توزع هذا النوع من القدرات في كل أنحاء الشرق الأوسط.
باراك: في كل سنة، يضيف حزب الله إلى ترسانته 10 آلاف صاروخ
في المقابل، كشف رئيس وحدة الأبحاث السابق في الاستخبارات العسكرية، أمان، العميد إيتي بارون (2011 – 2015)، بأنه في الأشهر الأولى من عام 2013، «دخل الى غرفتي عدد من الضباط، أغلبهم متخصصون في المجال التكنولوجي، وعرضوا عليّ أحداثاً تكاد تحصل، تتصل بما وصفوه أنه «مشروع دقة» للصواريخ الإيرانية، وعمليات نقل مركّبات من إيران إلى لبنان». وتابع بارون إنها كانت المرة الأولى التي أجرينا فيها نقاشاً جدياً حول مسألة أهمية «مشروع الدقة». مضيفا إنه «كان هناك حاجة للمستويين العسكري والسياسي، لشرح أبعاد تحقق قدرة هجوم دقيقة»، لافتاً الى أن ذلك يغيّر «العقيدة القتالية، وميدان القتال».
وبخصوص القدرات الاعتراضية، شكك رئيس معهد أبحاث الأمن القومي، بفعالية «القبة الحديدية»، و«مقلاع داود»، مستدلاً على ذلك بأن «التاريخ يثبت بأن الدفاع دائماً يتمّ اختراقه». وعند المفهوم نفسه توقف يهوشع أيضاً، بالقول إن منظومات الاعتراض غير قادرة على حماية المنشآت الإسرائيلية.
في هذا السياق، كان من الطبيعي أن يتمّ تناول نجاح حزب الله في بناء قدراته الصاروخية والعسكرية وتطويرها، وخاصة أنها تُظهر فشل استراتيجية «المعركة بين الحروب» التي شنتها إسرائيل ضده. على هذه الخلفية، أتى انتقاد إيهود باراك للقيادتين السياسية والأمنية، اللتين حاولتا تقديم حرب عام 2006 على أنها أسطورة وسط الجمهور الإسرائيلي لجهة أنها حققت هدوءاً استمر أكثر من عقد. وأكد باراك أنه ليس لهذا المفهوم أي أساس، مستدلاً على موقفه بالمعادلة الحسابية الآتية: «إذا كان لدى حزب الله في نهاية عام 2016، نحو 14 ألف صاروخ، أصبح لدى حزب الله في عام 2018، 140 ألف صاروخ. وهو ما يعني وفق هذه الحسابات أن حزب الله أضاف خلال 12 سنة على ترسانته الصاروخية 120 ألف صاروخ، بمعدل تقريبي يصل الى 10 آلاف صاروخ في السنة».
في السياق نفسه، أكد مراسل الشؤون العسكرية في صحيفة يديعوت أحرونوت، يوسي يهوشع، الأمرَ ذاته، إذ قال: «لقد غفونا أثناء نوبة الحراسة»، في إشارة مباشرة إلى كون إسرائيل «لم تعالج أمر هذا الوحش الذي نشأ هنا خلف الحدود». وخلص في ضوء ذلك الى أن هناك «عقداً كاملاً ذهب هباءً… حقيقة أننا سمحنا بهذا التعاظم على مرّ السنين ولم نُحبطه، أعتقد أن هذا هو أحد أفدح الإخفاقات التي ارتكبتها دولة إسرائيل».
وقد كان لافتاً تعمّد اختتام الحلقة، بالتهديد والوعيد للبنان، عبر استهداف بنيته التحتية وتدميرها. وأوكلت هذه المهمة بشكل رئيسي الى كل من باراك وحاليفا. اختار الأول، توجيه تهديدات باستهداف المطار والمرفأ والكهرباء… أما حاليفا، رئيس شعبة العمليات، فاختار أن يُذكّر بأن قدرات الجيش الإسرائيلي التدميرية تضاعفت بما لا يُقدّر، وأنه سيفعّل هذه القدرات، «ولن تبقى ملاجئ في بيروت».
إسرائيل: صواريخ حزب الله قادرة على تدمير مباني الكنيست والحكومة ووزارة الأمن وقيادة الجيش…
مع ذلك، يلاحظ مرة أخرى أن المسؤولين الإسرائيليين تجاهلوا بهذه التهديدات أكثر من اعتبار، كل منها كفيل بتقويض المفاعيل التي يراهنون عليها. الأول، أن حزب الله تضاعفت قدراته التدميرية في المقابل بما لا يُقاس عما كانت عليه عام 2006، وذلك بالاستناد الى تقارير إسرائيلية. والثاني، أن قدرات حزب الله الصاروخية هي قدرات ردعية ودفاعية في مواجهة أي سياسة عدوانية من النوع الذي هدَّد به باراك وحاليفا، وأثبتت فعاليتها في أكثر من محطة سابقة خلال أكثر من عقد.
والثالث، أن إحدى أكبر مشكلات إسرائيل مع حزب الله هي أن رسائلها التهويلية لم تنجح في ردعه عن الرد على أيّ اعتداءات تستوجب تفعيل قدراته، ونتيجة ذلك يلتزم العدو، منذ ما بعد حرب عام 2006، بمعادلة الردع التي فرضتها قدرات حزب الله وإرادته.