وقع المسؤولون في لبنان في الورطة، في ملف التفاوض على ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، لكثرة المناورات بأهدافها تارةً المحلية في سياق التنافس على الإمساك بالملف أو المزايدة على تحصيل حقوق البلد والكسب السياسي من ورائه، وطوراً التجارية والنفعية في سياق التهيؤ للحصول على مكاسب من استثمار الثروة الغازية والنفطية المحتملة، وثالثة في سياق التذاكي على الجهات الدولية المعنية.
إذا كان فن التفاوض يقتضي أحياناً بعض الشطارة والذكاء في المناورة، في مسألة حساسة بهذا المستوى، فإنه أمر مختلف عن التشاطر والتذاكي المكشوفَين، حين يكون الموضوع مرتبطاً بصراع دولي وإقليمي على سوق الطاقة العالمي، الذي يزداد تعقيداً وأهمية في هذه الأيام وتتداخل فيه المصالح الجيو سياسية مع الحقوق الوطنية للدول، فلا يعود هناك مكان للمصالح «البلدية» التي يكون مفعولها خلق الأوهام لا أكثر، وطغيان السذاجة لدى البعض، حيال أمر جلل.
أضاع لبنان أكثر من 12 سنة في التعاطي مع استخراج الغاز والنفط من المنطقة الاقتصادية الخالصة العائدة له في البحر جرّاء غياب وحدة الموقف من جهة، وبسبب إخضاع التفاوض على الحدود البحرية لبطولات دونكيشوتية أحياناً، ولأهداف مصلحية أحياناً أخرى، ولطموحات طفولية، من جهة ثانية…
في إسرائيل جرى إخضاع الموضوع لمصالح عليا للدولة العبرية وتم توظيف علاقاتها الخارجية لإنجاح تفوقها على لبنان في دخول السوق الإقليمي والعالمي، فضلاً عن إفادة حكامها من خفض كلفة الطاقة على دولتهم وإراحة اقتصادها. وكذلك في قبرص القريبة.
في لبنان جرى استخدام الحقوق في الخط 23 في بداية التفاوض غير المباشر مع إسرائيل عبر الجانب الأميركي، من أجل أن يأخذ بعض الفرقاء المحليين وقتهم في تحضير أنفسهم لإنشاء شركات وبنى تحتية تتولى خدمات التنقيب وإنتاج النفط والغاز على اليابسة، وتسويقه وبيعه و… وبدأ الأمر حتى باستغلال حقوق بيع الدراسات والمعلومات التي عادة هي حق للدولة التي تتولى هي بيعها لمصلحة الخزينة، وكذلك الوعود بالعقود بموازاة التفاوض على تحصيل المساحة (تمثل أقل من نصف المساحة المتنازع عليها التي هي 863 كلم²) التي تقع بين ما سُمّي خط «هوف» (الوسيط الأميركي الأسبق منذ العام 2012 ) والخط 23. ولربما أدّى التنافس بين بعض الفرقاء على مغانم «السمك في البحر قبل اصطياده»، هو الذي يفسر عرقلة التفاوض وتأخيره سواء مع الوسيط هوف أو مع الوسطاء الأميركيين الذين تبعوه، وصولاً إلى آموس هوكشتاين. وثمة من يعتبر أيضاً أن التباطؤ في التفاوض كان المقصود منه عدم تمكين لبنان من أن يكون له اقتصاد قوي ومداخيل تدفعه إلى الشراكة في شبكة نقل الطاقة إلى أوروبا، والتي باتت القاهرة مركزها تحت مسمى منتدى شرق البحر المتوسط للغاز الذي تشترك فيه إسرائيل ودول ذلك الساحل الشرق أوسطي.
أما الخط 29 الذي نشأ العام الماضي عند بدء التفاوض غير المباشر الرسمي بين لبنان وإسرائيل في الناقورة، (بعد أن كان يجري الحديث عنه في الكواليس قبل سنتين…) فقد كانت له وظائف متعددة في ضوء التشرذم في الموقف الداخلي حيال الملف. وهي وظائف متعددة لمجرد الإعلان بأنه خط «تفاوضي»، أي قابل للتراجع عنه، وهو تكتيك تفاوضي اعتبره كثر غير حذق، بطرح مطلب والإيحاء سلفاً بنية التنازل عنه. جرى تشجيع الوفد اللبناني العسكري المفاوض على اعتماده في مفاوضات الناقورة، ثم جرى سحب هذا التشجيع بعد الرفض الإسرائيلي له والامتعاض الأميركي من طرحه، وتبين للبعض أن السبب هو المقايضة بالتراجع عنه، من أجل رفع العقوبات عن النائب جبران باسيل فلم ينجح الأمر. وقيل أيضاً إن طرح هذا الخط الجديد كان يهدف إلى نسف المفاوضات لتهريب الشركات الثلاث، الفرنسية «توتال» والإيطالية «إيني» والروسية «نوفاتك»، التي وقع عليها التزام التنقيب والحفر للبلوكين 4 شمالاً و9 جنوباً، لأن دخول موسكو على الخط في لبنان أثار حفيظة الأميركيين ثم أغضبهم وازداد إصرارهم على استبعادها بعد حرب أوكرانيا… والفسحة الزمنية بين تجميد المفاوضات وبين استئنافها كانت تهدف إلى الاتفاق المسبق على الشركات البديلة التي يمكن أن تتولى الحفر والاستخراج وجرى الاتفاق على شركة خليجية، حظي من تهيأوأ للشراكة مع المستثمرين الأجانب، بحصة منها…
الحديث عن خلفيات التموجات في الموقف اللبناني في المفاوضات وحتى عن التلكؤ الأميركي، ومراوحة الموقف الإسرائيلي بين استعجال حسم الأمر وعدم الاكتراث، حتى لتهديدات «حزب الله»، يبدأ ولا ينتهي.
المأزق اللبناني يكمن في كيفية إخراج التفاوض هذه المرة من شرنقة المزايدات والمناورات الداخلية.