منذ أن كلّف عاموس هوكشتاين مهمة تسهيل المفاوضات غير المباشرة لترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل ضجّت مفاتيح البحث عبر «غوغل» عن هويته وتاريخه لوصفه بـ»المجنّد في جيش العدو» وبالـ»السمسار اليهودي المقنع» بـ»الجنسية الاميركية» ما جعله «الوسيط غير النزيه». كان ذلك قبل ان تتبدّل النظرة الى الرجل فاستعاد منذ ايام صفة «الموفد الاميركي المسهل» و»الملاك الحارس» للمصالح اللبنانية و»الضامن لها حاضراً ومستقبلاً». فكيف جرى هذا التحول؟
منذ ان أعلن رئيس مجلس النواب نبيه بري قبل عامين و5 أيام، وتحديداً في الأول من تشرين الاول عام 2020 التوصّل الى «اتفاق الإطار»، اتخذت المفاوضات المفتوحة لترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل منذ العام 2000 منحى جديدا يوحي بأنّ قراراً اتخذ في مكان ما لإقفال هذا الملف لتخفيف التوتر في المنطقة وكوسيلة لمعالجة طويلة الأمد للأزمة الاقتصادية والمالية التي يعيشها لبنان، خصوصاً ان الخطوة جاءت قبل 16 يوما على الذكرى السنوية الاولى لانتفاضة 17 تشرين الأول 2019. كان ذلك قبل ان يتبيّن انها كانت اللبنة الاولى للتحول الكبير في مواجهة ازمة الترسيم التي امتدّت على مدى عشرين عاما من المحادثات تبدّل خلالها أكثر من موفد أميركي بلا جدوى.
ثمّة من يعتقد ان في هذا العرض التاريخي الذي لم يكن منه بد، ان التطورات قد تبدّلت وقد طرأت معطيات جديدة اعادت الملف الى صدارة الأولويات الاميركية والدولية والأممية نتيجة العقوبات التي فرضت على كل أنواع الصادرات النفطية الروسية بعد اشهر قليلة على الغزو الروسي لاوكرانيا الذي أعاد الاهمية لـ»المشتقات النفطية الاحفورية» من نفط وغاز وفيول اويل وفحم وخلافها، بدلاً من التوجّه السريع الذي كان مقررا باللجوء الى «الطاقة النظيفة» البديلة والتي كانت ستوفر ما يقارب الـ 40 % من حاجات العالم بحلول العام 2035. وهو ما أعاد الإعتبار الى «الطاقة القديمة» الى أمد لا يقلّ عن العام 2050 بحسب التقارير التي وضعتها شركات النفط العالمية التي تستخرج وتسوّق ما يزيد عن 90 % من الطاقة العالمية.
على هذه الخلفيات، يمكن النظر الى الاهمية التي اعطيت لعملية الترسيم في شرق المتوسط من اجل تعويض النقص من الانتاج الروسي، وخصوصاً بالنسبة الى الاوروبيين والدول التي تتّكِل على نسبة عالية منه. فهو متوافر في المنطقة الأقرب اليها جغرافياً ويمكن تأمينه بأقل كلفة ممكنة على رغم من المساعي المبذولة لإحياء خطوط الغاز والنفط التي كانت مجمّدة، خصوصاً تلك التي تنقلها من دول الاتحاد السوفياتي سابقاً والتي خرجت عن السيطرة الروسية كما هي حال كازاخستان واوزباكستان التي كانت قد مدّدت خطوطها في اتجاه الشواطئ التركية واليونانية لإمداد أوروبا قبل ان يسيطر «الدب الروسي» على هذه الأسواق عبر خَطّي «نورد ستريم 1» ونورد ستريم 2» قياساً على الأسعار المخفوضة التي لا يمكن لأحد توفير أدنى منها ليقود المنافسة المستحيلة.
لا يمكن مقاربة هذه المرحلة، من دون الإشارة الى عامل مهم قادت إليه في مطلع حزيران المقبل وصول باخرة الإنتاج «اينيرجين باور» الى حقل كاريش، تزامناً مع مسلسل التفاهمات التي عقدت بين الاتحاد الأوروبي ومصر وإسرائيل لتوفير حاجة دوله من الطاقة. فسارع لبنان الى طلب التدخل الاميركي بطريقة عاجلة بعدما تسلّم الملف الخبير في شؤون الطاقة العالمية عاموس هوكشتاين خلفاً لسلفه جون دوروشيه مع وصول الرئيس جو بايدن الى البيت الابيض، فلبّى النداء «وسيطاً مسهلاً» ومتعهداً باحترام ما قال به «اتفاق الإطار» لجهة رعاية «المفاوضات غير المباشرة» مع العدو الاسرائيلي في ضيافة الأمم المتحدة.
وفي خطوة كانت تُحاكي ما انتهت اليه المفاوضات بين الطرفين التي قادها دوروشيه قبل ان يجمّدها في جولتها الخامسة التي عقدت في 5 ايار 2021 تلاحقت الاتهامات بحق هوكشتاين، ولم تنجح زيارته الاولى لبيروت في فكفكة العقد التي تركتها تلك المفاوضات، قبل ان تتفاقم ازمة الطاقة في أوروبا فتعددت السيناريوهات التي وضعته في خانة «المجنّد في الجيش الاسرائيلي» الى اتهامه بـ «السمسار اليهودي المقنع» بـ«الجنسية الاميركية» وصولاً الى اعتباره «الوسيط غير النزيه».
واللافت انّ هوكشتاين ـ باعتراف أحد أعضاء الوفد اللبناني المفاوض وآخر من الوفد الاميركي – كان يستوعب هذه الإتهامات وصولاً الى اعتبارها منطقية قبل ان يكلّف المهمة الجديدة التي يقوم بها في مثل الظروف الدولية وما يشهده قطاع الطاقة العالمي من «أزمات قاتلة» لم يشهدها من قبل. لذلك لم تثر لديه اي رد فعل سلبي، لكنه ردّ عليها بطريقة مختلفة وغير تقليدية فطلبَ في ثاني جولاته بين بيروت والقدس نهاية تموز الماضي من الوفدين اللبناني والاسرائيلي عدم الاخذ بأي معلومة عن تطور المفاوضات والمشاريع المتبادلة بين الطرفين سوى تلك التي يقدمها هو شخصياً كما أنه عَمّم هاتفه على اكثر من عشرة مسؤولين لبنانيين مُبدياً الاستعداد لأي توضيح، متعهداً بالوضوح والشفافية.
وربطاً بهذه الزاوية المتصلة بدور واشنطن، فقد نقل عن أحد أعضاء الوفد الأميركي في تلك المرحلة تأكيده انّ هوكشتاين يتّكِل بقوة على بايدن في اي توقيت يحتاجه. وقد تنبّأ منذ تلك الفترة بالتوجه الى تحسين العلاقات الاميركية ـ السعودية السيئة التي انعكست على علاقاتها بدول الخليج ايضا، بما يخدم مواجهة الازمة الطاقوية العالمية، وتنبّأ بالزيارة التي قيل انها مستحيلة الى المملكة العربية السعودية. واستطرد يومها قائلاً، لربما اضطر الى تخفيف العقوبات على إيران وفنزويلا لِمد العالم بنفطها وغازها ان لم تنجح مساعيه لزيادة إنتاج دول الخليج العربي في مواجهة الاسعار العالمية التي حلّقت فوق قدرة الشعب الأميركي على تحمّل تكلفتها.
وانطلاقاً من هذه المعطيات، فقد صنّف هوكشتاين منذ البداية معارضي التفاهم المطروح من جانبه في كل من اسرائيل ولبنان على حد سواء. وكما حذّر الحكومة الاسرائيلية من خطورة الانصياع لمعارضيها ولا سيما منهم رئيس الحكومة السابق بنيامين نتانياهو الذي يخوض مواجهة شرسة مع الحكومة الحالية، نبّه الجانب اللبناني من مخاطر اي عملية عسكرية لـ«حزب الله» تؤدي الى إشعال المنطقة وتدمير ما بني من تفاهمات، واعداً الجانب اللبناني بتأمين الضمانات السياسية والاقتصادية والمالية التي تكرّس حقوقه بالخط 23 كما رسمه، وباستئناف أعمال الحفر والاستكشاف التي تقوم بها شركة «توتال» الفرنسية مالكة الحق الحصري في البلوكات اللبنانية الجنوبية.
بَقي هوكشتاين على إصراره ليفوز باقتراحاته التي اصطدمت احياناً باللاءات اللبنانية كما الاسرائيلية، وتمكن من تأمين الحد الأدنى من مطالبهما، وتراجع عن اقتراحات سابقة ومنها سحب مطلبه توقيع اتفاقية تفاهم بين الجانبين. وقَبل بالطرح اللبناني منذ اللحظة الأولى لمفاتحته بالأمر مطلع تموز الماضي الرافض لوجود اي «وثيقة تفاهم» او «معاهدة» يظهر على إحدى أوراقها توقيعاً لأيّ من المسؤولين اللبنانيين الى جانب اي مسؤول اسرائيلي او اي شراكة مالية تتولاها شركة محايدة او اي طرف ثالث بما يمكن ان يفسّر بأي شكل من الأشكال نوعاً من التطبيع.
وبناء على ما تقدم لم يكن مستغرباً ان تنطلق أصوات من اسرائيل تتهم هوكشتاين بالانحياز الى الجانب اللبناني، ولكنه لن يجد لبنانياً واحداً ما زال مصرّاً على اتهاماته السابقة، فتحوّل في نظر اكثرهم تشدداً الى «حمل وديع» يؤتَمن على الحقوق اللبنانية و»الملاك الحارس» لها حاضراً ومستقبلاً.