بعد ساعات قليلة من وصول الموفد الرئاسي الأميركي عاموس هوكشتاين الى تل أبيب، وصل وزير الخارجية الايرانية حسين امير عبد اللهيان الى بيروت في مهمّة قد تكون متشابهة. وهو ما التقى عليه الرجلان بلغتين فارسية وأميركية، في اشارتهما ومعهما الناطق باسم البيت الابيض الى «تحقيق الأمن في المنطقة وعدم توسيع رقعة الحرب». وكل ذلك من اجل ان تنسحب «هدنة غزة» على جنوب لبنان. وعليه، كيف يمكن تفسير هذه المعادلة؟
تنصح مراجع سياسية وديبلوماسية واستخبارية، أنّه وعند إجراء اي مقارنة بين ما يجري في غزة وما شهدته ساحات المواجهة المماثلة، وتحديداً عند استعراضها لتاريخ المواجهات الاسرائيلية ـ الفلسطينية وحتى العربية وما رافقها وصولاً الى عملية «طوفان الأقصى» التي قلبت كثيراً من الادوار والأحجام وغيّرت من مجرى وشكل الحروب التقليدية ونهاياتها بين الأطراف المتنازعة منذ اكثر منذ سبعة عقود من الزمن ونيف.
وعليه، فإنّه وطالما انّ لكل مقام مقال، يجدر بالمراقبين والمحللين السياسيين ان ينظروا الى الواقع الجديد، الذي تعدّدت فيه القوى والاطراف التي لعبت ادوارها على الساحات المختلفة الفلسطينية منها والاسرائيلية والإقليمية والدولية، في ظل غياب الرجال الكبار في المحافل الدولية الكبرى، التي كانت قادرة على حسم كثير من كل أشكال النزاعات السابقة بطريقة ملتبسة أبقت الزغل في كثير من المواجهات تحت الجروح الى ان تفتحت وتورمت في وقت لاحق، لتتحول نزيفاً قاتلاً. ذلك أنّه لم يعد هناك من هو قادر على حسم اي معركة من طرف واحد لتكون له الغلبة كاملة.
والدليل الى هذه المؤشرات الدالة الى ما بلغته التطورات الاخيرة، يكمن في سقوط معظم الأهداف المعلنة وغير المعلنة لعملية «السيوف الحديدية» التي أرادت منها إسرائيل إطفاء ردّات الفعل على عملية «طوفان الأقصى»، في غلاف غزة والنزوح غير المسبوق الذي شهده الجليل الاعلى وعموم المدن الاسرائيلية التي تحوّلت لربما للمرّة الاولى منذ قيام الدولة العبرية الى مسرح للعمليات العسكرية بعدما كانت تقتصر على اراضي غزة والضفة واريحا والدول المحيطة بها.
لا تكمن القراءة المطلوبة لما تمّ التوصل إليه من هدنة انسانية بدأ تطبيقها منذ صباح امس، فقد توقفت المراجع الديبلوماسية والعسكرية امام حجم الوساطات والجهود التي بُذلت توصلاً الى هذه المرحلة، رغم الخلاف بين اعتبارها محطة تقليدية لا بدّ منها للتخفيف قدر الإمكان من التحولات الكبرى في الرأي العام الدولي تجاه ما ارتكبته اسرائيل من جرائم ومجازر غير مسبوقة لتستأنف من بعدها العمليات العسكرية وربما بطريقة أكثر عنفاً وتوسعاً. وهي جهود جنّدت لها مختلف الطاقات الديبلوماسية ومن تحتها في الكواليس السرية جملة من التهديدات بقرارات يمكن اتخاذها جبراً وإلزاماً إن تمادت إسرائيل بارتكاباتها ومن خلفها الدول والحكومات الداعمة لها.
ولذلك لم تخف الحكومات التي بدأت تعيد النظر في مواقفها مما جرى من شعورها بالحرج الكبير تجاه مواقفها من الوضع في الايام الاولى من الحرب، نتيجة ما تمّ تسويقه بطريقة استفزازية أعقبت ما جرى في كيبوتزات الغلاف، قبل ان تفكّ رموز كثير مما قيل زورًا وكذباً عبرت عنها سلسلة التوضيحات التي أُجبروا عليها، من دون ان يحول ذلك دون إهداء اسرائيل اكثر من مهلة إضافية لتنفيذ ما تمنته وتعهّدت به. فقد كانت ترغب في أن ترى ما يرضي نهمها وسعيها الى استعادة اي من الأسرى العسكريين والمدنيين من جنسيات اسرائيلية واخرى من حاملي الجنسيتين، إرضاءً للحكومات المعنية بفقدانهم في تلك العملية الواسعة والمفاجئة.
ولما غاب الامل في إمكان ان تستعيد اسرائيل بأي طريقة ما فقدته من ثقة مواطنيها والمستوطنين، تغيّرت المعادلات وبدأ البحث عمّا يعاكس ما اتُخذ من مواقف. فاستخدمت كل الطاقات لترميم ما اصاب صورة وهيبة جيشها ومؤسساتها الاستخبارية من ندوب خطيرة. فهي كانت قبل ذلك، تتباهى بانّها تحصي حراك وأنفاس الفلسطينيين ودول المنطقة لحظة بلحظة قبل انكشافها بالطريقة التي شهدتها الساعات الأولى للعملية في غلاف غزة.
وعند الدخول في تفاصيل تلك المرحلة وما شهدته من محاولات فاشلة واخرى هزيلة لم تؤت أهدافها، توجّهت الانظار الى تدارك مظاهر الفشل التي عّبرت عنها المحاولات التي خاضتها الولايات المتحدة الاميركية، فرنسا، روسيا، الصين والبرازيل في مجلس الأمن لترتيب «هدنة انسانية» أو «وقف للنار». فهي اعقبت مساعي خالية من اي انجاز، تمثلت بتعطيل مشروع «القمة الرباعية» الاميركية ـ الاردنية – المصرية والفلسطينية التي الغتها عمّان عشية موعدها، وسقوط التجربة المصرية في «قمة القاهرة للسلام» بعدما فشل أقطابها من 31 دولة ومؤسسات اممية واقليمية من إصدار بيان ختامي، الى ان جاء مسلسل القمم التي نظّمتها الرياض فانقلبت الصورة في القمة الاستثنائية العربية ـ الاسلامية التي جمعت رؤساء وملوك وأمراء 57 دولة لتدقّ ناقوس الخطر من امكان سقوط التفاهمات السابقة بين إسرائيل والدول المطّبعة كما المسّ بعلاقاتها مع واشنطن.
عند هذه المحطة لا بدّ من الاشارة الى الجهود المصرية القطرية والاميركية التي توحّدت في جهد استثنائي غير مسبوق اعلنه البيت الأبيض، عندما كشف عن اتصالات الرئيس جو بايدن برؤساء هذه الدول يومياً توصلاً الى هدنة الأمس، فتراجعت الرؤوس العسكرية الحامية لتعطي فرصة للمعالجات السياسية والانسانية. وان توقف المراقبون أمام ما انتهت اليه هذه المساعي ظهرت الأدوار المخفية التي لعبتها دول اخرى تتقدّمها طهران. وهو ما ترجمه وزير خارجيتها حسين أمير عبد اللهيان بزيارته الخاصة والاستثنائية لبيروت بعد ساعات قليلة من وصول هوكشتاين الى تل ابيب مرددين «اسطوانة واحدة» بلغتين فارسية واميركية تدعو الى لجم الحرب ووقف اي مشروع لتوسيعها في اتجاه لبنان او اي جهة أخرى.
وما زاد من الاقتناع أنّ كلاً من هوكشتاين وعبداللهيان قد لعبا كل على ساحته الدور عينه، وخصوصاً عندما توجّه عبد اللهيان مباشرة من بيروت الى الدوحة، حيث المطبخ الرئيسي للتفاهمات الاسرائيلية – الفلسطينية، وحيث تُبرمج عملية تبادل الرهائن والاسرى والمعتقلين بين المنظمة واسرائيل بدقائقها. عدا عمّا سيلاقيها من جهود الإغاثة للفلسطينيين على مساحة القطاع من دون تمييز بين شمال وجنوب، وهو ما اوحى بوجود تفاهمات اميركية ـ ايرانية محتملة كانت تجري فصولها بالتوازي مع جهود ضبط الوضع على الجبهة اللبنانية كما اليمنية، في انتظار ما قد تنتجه مساعي تمديد الهدنة لتتحول مسلسلاً يؤدي الى التهدئة تمهيداً للبحث في اليوم الاول للقطاع بعد الحرب.
ولا تستبعد المراجع العليمة، أن يبدأ البحث جدّياً، في ما يعني الملف اللبناني. وإن عاد الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان وقبله او بعده وزير الخارجية الاميركية انتوني بلينكن الى بيروت، تكتمل الصفقة لإعادة تكوين السلطة بتقصير مهلة خلو سدّة الرئاسة وانتخاب رئيس للجمهورية.