توحي الاتصالات الجارية انّ المنطقة هي على قاب قوسين أو أدنى من مجموعة المشاريع المتعثرة. فلا المساعي الهادفة الى وقف النار تقدّمت، ولا التوجّهات الى تصعيد الحرب باتت خياراً وحيداً. وكل ذلك يجري في انتظار معرفة اي من السيناريوهات سيتقدّم، لإدراك حجم انعكاساته على اي وساطة ومنها مهمّة الموفد الاميركي عاموس هوكشتاين، قبل ربطها بمصير مشروع قرار وقف إطلاق النار «الموقت» في غزة، الذي تتريث واشنطن في طرحه على مجلس الأمن. وهذه هي المؤشرات.
على هذه الخلفيات، تترقّب الأوساط السياسية والديبلوماسية اي تطور يمكن ان يقود اليه السباق بين الحلول الديبلوماسية والخطوات العسكرية، وما هو نصيب لبنان من هذه المحطات، سعياً الى فهم مصير الربط الحاصل بين ما يُعتبر استحقاقاً اقليمياً مرتبطاً بأحداث قطاع غزة وتردداتها الكبيرة في المنطقة والعالم، ومصير الإستحقاقين الأمني في الجنوب اللبناني، والدستوري المرتبط بمصير خلو سدّة الرئاسة من شاغلها في لبنان.
والى ان تصل المراوحة السائدة الى ساعة الحقيقة «المفقودة» حتى اللحظة، تبقى هناك اسئلة «غامضة» بلا اجوبة قياساً على حجم الالتباس الذي يلفّ الحركة الديبلوماسية في المنطقة، ومدى ارتباطها بما يجري من عمليات عسكرية على مختلف ساحاتها. وما يمكن ان تقود إليه من مخاوف تجاوزت الحرب التدميرية في قطاع غزة، في ظلّ اي توجّه لتوسيعها في اتجاه لبنان بعنف مضاعف عمّا يشهده، وتطور ما يجري في البحر الأحمر ومحيطه نحو الاسوأ. مع الأخذ في الاعتبار ما يمكن أن تعكسه من مخاطر على أمن وسلامة الدول التي تحولت ساحات لها. وهو ما بات رهناً بما ستنتهي إليه الوساطات الدولية والاقليمية التي تديرها اطرافها الاربعة: الاميركية، الاسرائيلية، المصرية والقطرية منذ «تفاهم باريس» الخاص بـ«حرب غزة» التي أعقبت انهيار مجموعة التفاهمات غير المكتملة التي توصلت اليها لقاءات الدوحة والقاهرة وتل أبيب.
ولا تستثني هذه القراءة، عند ملامستها الوضع في الجنوب، ما يمكن ان تؤدي اليه الجهود المبذولة على مستوى المجموعة الخماسية العربية والدولية، التي انطلقت من باريس قبل عام وشهر تقريباً، وما يمكن ان تنتهي اليه مهمّة الموفد الرئاسي الاميركي عاموس هوكشتاين التي تقدّمت على ما عداها من مهمّات اخرى. ولا سيما منها تلك التي قادها الموفد السرّي القطري فهد بن جاسم، وفرملة حركة نظيرهما الفرنسي الوزير السابق جان ايف لودريان الغائب عن المشهد السياسي منذ مطلع الشهر الماضي، بعدما أنهى جولته على الدوحة والرياض والقاهرة، متجنّباً اي زيارة للبنان وانعدام مثيلاتها الى واشنطن، منذ ان أطلق تحرّكه.
وامام هذه الصورة الفسيفسائية بعناوينها الكبرى، بقيت الأنظار مشدودة الى رصد التحركات الناشطة على اكثر من مستوى، ومعها السيناريوهات المتناقضة المتداولة، الى أن تأتي الايام المقبلة بالخبر اليقين. ومن بينها تلك التي يمكن ان يعود بها هوكشتاين من تل أبيب، بعدما انقطعت اخباره منذ «الزيارة – الغارة» الخاطفة للبنان. وهو امر ينسحب على مهمّة فريقه الذي بقي في بيروت ليكون على تواصل مع القيادات اللبنانية. فما نُسج من تفاهمات مبدئية مع رئيس مجلس النواب نبيه بري يتطلّب رصداً دقيقاً لأي تقدّم يمكن ان يؤدي الى «اتفاق الإطار» الذي يرسم خريطة الطريق الى الخطوات التي يمكن القيام بها. وهي خريطة استُثنيت منها الخطوات «المستحيلة» التي سقطت من حسابات كل الاطراف، إن بقيت المواقف المتصلّبة الاخيرة كما عبّرت عنها القيادة الاسرائيلية، التي لم تتخل بعد عن الخيارات العسكرية الدموية، وتلك التي نُسبت الى حركة «حماس» ومعهما موقف «حزب الله» المتشدّد مما يجري في «حرب الإلهاء والإسناد» من جنوب لبنان.
وفي انتظار الجديد المحتمل، فقد كشفت مراجع ديبلوماسية وسياسية، انّ جزءاً مما هو مقدّر من تطورات يمكن ان يتبدل بين لحظة واخرى، في حال مضت واشنطن الى الخطوات الاخيرة في سعيها الى التقدّم بمشروع قرار جديد أمام مجلس الأمن الدولي يهدف الى «وقف إطلاق النار الموقت في غزة لمدة 6 أسابيع مع إطلاق سراح جميع الأسرى الاسرائيليين بمجرد موافقة الأطراف». وهو مشروع ما زال موضع أخذ وردّ، بعدما استهلكت التعديلات والمشاورات اكثر من مسودة.
وفي جديد التفاصيل التي ترصدها الديبلوماسية اللبنانية، انّ المشروع الاميركي بلغ حتى بداية ليل أمس «المسودة الثالثة»، ولم يحظ بعد بالأصوات الـ9 المطلوبة من أعضاء مجلس الأمن الـ15، هذا في حال لم تستخدم روسيا او الصين حق النقض «الفيتو» لتعطيله، في ردّ مباشر على إسقاط واشنطن قبل ايام قليلة المشروع الجزائري الذي تقدّمت به بعثتها في نيويورك باسم المجموعة العربية، الى أن لقي مصير المشاريع السابقة، ومنها تلك التي تقدّمت بها الإمارات العربية المتحدة ودول اخرى. والسبب يعود الى اصرار واشنطن على وقف «موقت» للنار، ويصرّ الباقون بمن فيهم حلفاؤها البريطانيون والفرنسيون، على «وقف نار فوري»، كما قالت المشاريع السابقة التي تمّ تعطيلها، مع تفصيل إضافي يتعلق بمطالب حركة «حماس» ومجموعة الدول العربية التي تتحدث عن إمدادات انسانية وغذائية فورية وكافية للسكان الفلسطينيين ووقف المجازر نهائياً وترتيب الأجواء التي تسمح بتنفيذ مشروع «حل الدولتين»، إن كانت الدعوة الاميركية جدّية الى مثل هذه الخطوة. وكل ذلك مطلوب قبل التجاوب مع اي دعوة لاستكمال برامج التطبيع مع اسرائيل التي اقترحتها واشنطن، قبل ان تعطّلها عملية «طوفان الأقصى» وتقلب بعض المواقف العربية منها رأسا على عقب.
وعليه، استغربت المصادر الديبلوماسية اللبنانية اصرار واشنطن على اقتراحها بـ «وقف موقت» لإطلاق النار مهما طالت المفاوضات في شأنه، بعدما عبّرت بعثتها في الأمم المتحدة صراحة عن نيتها «إتاحة الوقت للمفاوضات في شأن مسودتها الأخيرة، ولن تستعجل الدعوة إلى عرضها على اعضاء مجلس الأمن للتصويت». ذلك انّ مثل هذا «التريث» لا يفسّر لدى اي من الاطراف الدولية سوى انّه فرصة اضافية امام الآلة العسكرية لارتكاب المجازر في حق المدنيين، ليس في رفح فحسب، انما في مناطق اخرى من قطاع غزة، ادّعت انّها باتت تحت سيطرتها، وهو ما ترجمته «مجزرة الطحين» في غزة، وتلك التي ارتُكبت في بيت لهيا وعلى شواطئ غزة في الساعات القليلة الماضية، وما تركته من نقزة لدى اكثر حلفاء اسرائيل، عقب المواقف المفاجئة البريطانية والفرنسية الاخيرة.
وفي خلاصة هذه القراءة ومستجداتها، فهمت المراجع الديبلوماسية ولو متأخّرة، ما نُقل عن مسؤولين أمميين من توصيف لمهمّة هوكشتاين الصعبة. فهي على اقتناع لا يتزعزع، بأنّه يخوض مواجهة شرسة مع مجموعة من «المأزومين» في الحكومة الاسرائيلية وبدرجة موازية تقريباً في قيادة «حماس» في الداخل وفي مواقع أخرى، وهو ما يبعد الحلول المرتقبة الى حين.