أمّا وقد غادر الموفد الاميركي عاموس هوكشتاين بيروت الى جهة مجهولة، فمن المفترض ان تبدأ عملية تقييم واقعية للنتائج التي ترتّبت على جولته السادسة منذ ان تسلّم مهماته بداية عهد الرئيس جو بايدن وما حَصده لبنان على المَديين القريب والبعيد. لذلك، فإنّ من بين الخلاصات التي تم التوصّل اليها ما يُوحي بأنّ لبنان إن حقق مطلبه في حقل قانا يكون قد دفع ثمن جلد الدب قبل صيده. كيف ولماذا؟
تعتقد مراجع ديبلوماسية وسياسية مطّلعة ان ليس من الخطأ الجسيم ان يعبّر المسؤولون اللبنانيون عن ارتياحهم الى النتائج التي انتهت اليها زيارة هوكشتاين السادسة. فهو وقبل ان يغادر لبنان تحدّث عن زيارة مفصلية حملت كثيرا من الإشارات التي يمكن ان تؤسّس الى ما يقود الى استئناف مهمته في عملية الترسيم بين البلدين بمعزل عن تحديد موعد الجلسة المقبلة من المفاوضات والأسس التي ستعتمد لضمان نتائجها المرجوّة من مختلف الأطراف.
وعليه، ليس سراً القول انّ من بين امنيات المسؤولين اللبنانيين الذين استدعوا هوكشتاين على عجل، ان يقبل باستئناف مهمته تجنباً للأسوأ المتوقّع بعد وصول الباخرة «اينيرجين باور» الى حقل كاريش وإحياء المفاوضات بدلاً من اي خيار عسكري آخر يمكن ان يؤدي إليه دخولها منطقة متنازَع عليها قبل إنجاز عملية الترسيم واقفال النقاش حولها. ولهذه الغاية فقد نجحت المساعي التي بذلت على اكثر من مستوى الى توحيد الموقف اللبناني حول صيغة ترجمها الاقتراح بخط مُحدث «يتسلّل» ما بين الخطوط المطروحة والمعترف بها لدى جميع الأطراف. فمجموعة الرسائل التي تلقّاها لبنان قبل وصول الموفد الاميركي سواء من واشنطن او من عواصم أخرى كانت تعمل في الكواليس الديبلوماسية هي التي أفضَت إلى اقتراح لبنان الجديد.
وقد بات واضحا، ولو بطريقة غير رسمية، انّ مطلب لبنان الرئيسي بُني على اقتراح بتعديل الخط «المتعرّج» الذي اقترحه هوكشتاين منذ 8 شباط الماضي في النقطة «النافرة» التي رسمها في منتصف البلوك الرقم 9 بطريقة تضمن حماية الجزء «المشطوب» من «حقل قانا» ليبقى ضمن حصة لبنان كاملاً، وبالخط الذي رسمته الدراسات الزلزالية التي اكتشفته. بالاضافة الى طلب الالتزام بالخط 23 المطروح من جانب لبنان على الأمم المتحدة منذ العام 2011 بموجب المرسوم 6433 بهدف استعادته للبلوك الرقم 8 كاملاً.
وتأسيساً على ما تقدّم، وفي مقابل ما عبّر عنه هوكشتاين من ارتياح لم يشعر به من قبل، فقد عبّر المسؤولون اللبنانيون في عملية تقييم أجريت بعد مغادرة هوكشتاين ليل أمس الأول عن شعور مُماثِل لما حقّقه الموقف اللبناني الموحد من «تفهمّ» عَبّر عنه هوكشتاين بطريقة عفوية بعد ان استعرض الخريطة المقترحة من الجانب اللبناني. عدا عمّا ضمنه من توقّف لبنان عن طرح او بحث في العروض التي تعوق مهمته ولا سيما لجهة تجنّب الحديث عن الخط 29 وما يمكن ان يؤدي اليه في هذا التوقيت بالذات. وهو ما قرأه المسؤولون اللبنانيون عندما دعا هوكشتاين في أولى إطلالاته الإعلامية الى التخلّي عن منطق الشعارات والتركيز على المصالح وما هو ممكن ان يؤدي الى التوافق بعد تنازلات متبادلة من كلا الطرفين.
فهوكشتاين كان واضحاً عندما أشار في اثناء لقائه المسؤولين الكبار الى انه، وإن كان البعض يشير الى تاريخه العائلي بما حفلت به وسائل التواصل الاجتماعي، كان ما يزال ملتزماً بمهمة الوسيط المسهل في هذه المفاوضات وانه لا يمكنه ان يتجاهل ما يؤدي الى نجاح مهمته وسيكون سعيداً اكثر لو انّ لبنان تعاطى مع هذا الملف بجدية أكبر وفي مناسبات سابقة. فوَقف المزايدات التي لا تؤدي سوى الى تعقيد الامور كان مطلوبا من قبل. واسرائيل تجني اليوم نتائج المسوحات الزلزالية وحفرياتها الاستكشافية في حقل كاريش التي أجريت قبل ست او سبع سنوات فيما كان اللبنانيون في مكان آخر.
ولعل ما تسرّب من لقائه مع مجموعة من النواب التغييريين كان أكبر دليل على تقديره لحجم الفرَص التي أضاعها لبنان في وقت كانت اسرائيل تنفق مليارات الدولارات تحضيراً لِما توصّلت اليه في عمليات الاستخراج التي ستبدأ قريباً وفي توقيت دقيق يسمح لها بتسويق إنتاجها في مرحلة يحتاج فيها العالم الى مزيد من الطاقة وبالاسعار الاغلى بعدما تسبّب به الغزو الروسي لأوكرانيا من ترددات سلبية على هذا القطاع. وإن تمعّنَ المراقبون في حديثه عن حقل قانا واسئلته عن الضمانات بوجوده قبل الحديث عن حدوده وحجمه ومحتواه، فإنّ ذلك يدفع الى ان يكون الموقف اللبناني مستنداً الى نتائج دقيقة توفّر له حقوقه كاملة لجهة حماية ثروته أينما وجدت.
وعلى رغم مما نقل عن هوكشتاين في هذا المجال، فإنّ مَن اطلعَ على محاضر الجلسات الرسمية التي عقدها ثَبتَ لديه انه لم يقدّم اي ضمان او تصور نهائي للمرحلة المقبلة والآلية التي يمكن اللجوء اليها الى ان يتحقق من الرد الاسرائيلي. ولكن في الوقت عينه كانت تعابير وجهه وتعليقاته المقتضبة كافية للتعبير عن تفهّمه المتقدم لمطالب لبنان وما استندت اليه. فأيّاً كان موقفه الشخصي مما يجري على مسار المفاوضات فإنه لا يمكن ان يتجاهل القوانين الدولية وما تفرضه من أصول في رعاية مثل هذه المفاوضات، والتجارب السابقة التي شارك فيها غير خافية على كُثر.
والى هذه الملاحظات، فإنّ لهوكشتاين نظريات ثابتة لم يُخفها منذ سنوات عدة. فهو عاينَ الوضع في جنوب لبنان قبل عشر سنوات تقريباً، وواكبَ أعمال أسلافه كافة ولديه من المعلومات الخافية على كثير من اللبنانيين من سياسيين وخبراء. ولا يبدو انه على استعداد للتراجع عنها. فهو «براغماتي» الى درجة عالية، والى استخفافه الدائم بالشعارات التي تقود الرأي العام فإنه يدعو دائماً الى استخدام ماكينات الحساب والمعايير المالية في تقدير قيمة الثروات بدقة. وفي رأيه انّ ما تحتاجه مرحلة الاستثمار وجَني الارباح تَلي جهوداً مضنية ولسنوات عدة لم يبذلها لبنان مرة. ولذلك فهو لم يُخف رفضه او إهماله بالحد الادنى لبعض الطروحات التي شهدتها التجربة اللبنانية ـ الاسرائيلية لمجرد إصراره على احتساب الثروات حيث هي تحت سطح الماء او الارض قبل اعطاء الاهمية للخطوط التي ترسم فوق هذه السطوح. وعلى رغم من بعض الملاحظات السلبية فهو يعتقد انّ ما انتهت اليه هذه الزيارة كان تحوّلاً مفقوداً منذ ان جمّدت المفاوضات السابقة في 5 ايار العام 2021 بناء على طلب سلفه جون دوروشيه.
وبناء على ما تقدّم، تجدر الاشارة الى انّ هناك مخاوف جدية من ان تتلاشى وحدة الموقف اللبناني في وقت قريب لأسباب مختلفة، خصوصاً انّ الجواب الاسرائيلي قد لا يكون موعده قريبا. فهوكشتاين مشغول بملفات كبرى أميركية ودولية تعني قطاع الطاقة واكبرها مرتبط بالتحضيرات لزيارة بايدن لإسرائيل والسعودية. والى حينه فإنّ ما يُقلق البعض ان يكون لبنان الذي راهنَ على «حقل قانا» مقابل تَخلّيه عن منطقة أخرى خاسراً فقد يكون دفعَ ثمنه سلفاً لِيصحّ القول انّ لبنان دفع ثمن جلد الدب قبل اصطياده.