لم تكن زيارة لبنان وإسرائيل خلال هذه الفترة واردةً على أجندة هوكشتاين. لكنّ القرار جاء طارئاً، بعدما أصبحت الأمور تخرج فعلاً عن ضوابطها. وربما جاء ليقول: أللهم اشهد إنّي قد بلّغت!
ما حذّر منه العارفون في الشأن العسكري بدأ يحصل فعلاً في الجنوب. فمن الصعب تَجنّب أن تتحوّل المناوشات «المحدودة» بين جيشين إلى حرب واسعة في حالين:
1 – إذا دامت هذه المناوشات فترة طويلة جداً كما هو حاصل في الجنوب منذ 9 أشهر.
2 – إذا حدث ما يرفع حرارة هذه المناوشات في شكل حادّ، ولو لفترة قصيرة، كما حصل في الأيام الأخيرة.
فحرب الاستنزاف هناك، التي جرى اعتبارها تكتيكاً عسكرياً مضبوطاً، انزلقَ فيها الطرفان إلى نطاق جغرافي اتّسَع كثيراً، كما ازدادت الحرب شراسة وباتت فيها الخسائر البشرية والمادية فادحة، خصوصاً في الجانب اللبناني. وفي الواقع، يتدرّج الطرفان المتقاتلان نحو الحرب الواسعة، على رغم أنهما يفضّلان تجنّبها.
فنتيجة لعمليات الاغتيال المكثفة التي تستهدف كوادر رفيعي المستوى في «حزب الله»، اضطر «الحزب» إلى توسيع دائرة ضرباته. وهذا التحدي المتبادل في التوسّع يعتبره الخبراء مدخلاً طبيعياً إلى اندلاع حرب واسعة.
حتى الأسابيع الأخيرة، كان هوكشتاين مطمئناً نسبياً إلى مسار التطورات على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية. ففي رأيه، لن يَنجرّ «حزب الله» إلى الحرب المفتوحة، ولو كان هو المبادر عسكرياً، بهدف دعم «حماس» في غزة. كما أن إسرائيل من جهتها تتجنّب خوض حربين مفتوحتين في لبنان وغزة في آن معاً. ولطالما راهنَ هوكشتاين على أنه من الممكن استغلال أي هدنة تتحقق في غزة من أجل تبريد جبهة الجنوب وتحقيق خرق في المفاوضات مع «حزب الله». لكن وضع القطاع يزداد تعقيداً، فانعكس ذلك انسداداً للأفق في لبنان.
كما راهنَ هوكشتاين خصوصاً على أن إسرائيل لن ترتكب خطأ سياسياً بتحدي الولايات المتحدة والدخول في مغامرة متهورة على حدود لبنان. ولطالما أرسل التطمينات بهذا المعنى إلى أركان الدولة اللبنانية، ومن خلالها إلى «حزب الله». لكن فشل التسوية في غزة أطلق الهواجس في لبنان.
بادرَ بنيامين نتنياهو إلى استباق جولة هوكشتاين برفع سقف مطالبه من «حزب الله». فاشترط انسحاب المقاتلين إلى ما وراء خط الليطاني، بالديبلوماسية وإلّا فبالضربة العسكرية. أي إن الإسرائيليين عادوا إلى طرحهم الأول، التزام «الحزب» بالبقعة التي حددها القرار 1701، بعدما كانوا قد قدموا التسهيلات في وقت سابق، واكتفوا بانسحاب المقاتلين بضعة كيلومترات عن الخط الأزرق.
وعلى الأرجح، بهذا التهديد لا يمهّد نتنياهو فعلاً لتنفيذ ضربة عسكرية كبيرة في لبنان، بل يسعى إلى رفع مستوى الضغط على «الحزب»، كي يوافق على وقف النار ويقدم ضمانات تُطمئِن سكان المنطقة الشمالية الذين تعتزم الحكومة إعادتهم إلى منازلهم قبل أيلول، موعد انطلاق العام الدراسي.
يدرك هوكشتاين أنه سيكون في مهمة شبه مستحيلة إذا استمر يطالب بوقف النار في الجنوب، فيما الحرب دائرة في غزة. ولذلك، هو عمدَ إلى تعديل أفكاره السابقة لكي تتلاءم مع وضعية المراوحة المستمرة هناك، والتي ربما تطول أشهراً أخرى أو حتى سنوات. وقد حمل إلى بيروت خطة أكثر «واقعية»، مُبرمجة على 3 مراحل، هي:
1 – إلتزام الجانبين فوراً، ومن دون شروط، قواعد الاشتباك التي كانت سائدة في الفترة الأولى من الحرب، بحيث تنحصر العمليات داخل بقعة جغرافية ضيقة موازية للحدود. وهذا الأمر يُفترض أن يوافق عليه الجميع، لأنه لا يبدّل شيئاً في الوقائع سوى إعادة ضبط الأمور. وتنفيذ هذا البند لا يرتبط بأي عامل آخر، ولا يتأثر باستمرار الحرب في غزة.
وبهذا الطرح، يكون هوكشتاين قد خفّض سقف مبادرته ظرفياً بهدف منع الانفجار الكبير، كأولوية. وبعد ذلك، يكون النقاش في التسوية رهن التطورات الآتية.
2 – يتم تفعيل الجهد للتوصل إلى تسوية لوقف نار طويل الأمد في غزة، ينعكس وَقفاً رديفاً للنار على الحدود مع لبنان، قد يُتاح فيه استئناف المفاوضات على ترتيبات أمنية دائمة في الجنوب اللبناني.
3 – تأجيل التسوية الدائمة وخطوات ترسيم الحدود مع لبنان وما يليها من نتائج سياسية واقتصادية، إلى ما بعد التسوية الدائمة في غزة.
وخطة هوكشتاين الجديدة تبدو أكثر واقعية، بمعنى أنها تركّز على «حصر النار» في بقعةٍ محددة إذا كان متعذّراً «إخماد النار» في الوقت الحاضر. وفي أسوأ الأحوال، سيُتيح «القتال المضبوط» في منطقة حدودية محدودة أن ينتظر الجميع تطورات الوضع في غزة، بمقدار أدنى من القلق، ريثما تكون الظروف قد نضجت لتسوية معينة.
ثمّة من يخشى أن يكون هوكشتاين في صَدد استخدام «الخرطوشة» الأخيرة، قبل أن يُطلق الإسرائيليون العنان لمغامرتهم المحتملة في لبنان، خصوصاً أن تشرين الثاني يقترب، وفيه ستكون واشنطن أكثر انشغالاً باستحقاقها الرئاسي. فهل هناك فعلاً فرصة أمام لبنان لتجنّب الأسوأ؟